عام المجتمع.. والأمن المجتمعي

00:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

صلاح الغول

يُجسد إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد 2025 «عام المجتمع» رؤية القيادة الرشيدة في تعزيز التلاحم المجتمعي، ويُجدد تراث زايد. وكما أوضحنا في مقالات سابقة على صفحات «الخليج»، يُعبر تراث زايد عن مزيجٍ خلاق بين قيم وأفكارٍ قبلية-عربية وإسلامية وإنسانية. ويبرز التلاحم المجتمعي كأهم القيم في تُراث زايد، الذي وضع الإنسان، كفردٍ في المجتمع، في مقدمة أجندته الوطنية، لإيمانه الراسخ بأنه أساس كل بناء حضاري.
ويشير «التلاحم المجتمعي» إلى الارتباط الوثيق والتعاضد بين أفراد المجتمع، وتضامنهم في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، وإلى أنّ المجتمع، ممثلاً في قيادته، يوفر للأفراد الرفاهية من خلال المساواة في توفير الفرص والبعد عن جميع أشكال التهميش. و تعتمد قوة التلاحم المجتمعي على مجموعة من المبادئ والقيم الفرعية، أهمها: الشعور بالانتماء، والثقة والاحترام المتبادلين، والتسامح الإنساني، وتقبل التعددية وزيادة مستوى التطوع في المجتمع.
ويُعد التلاحم المجتمعي عاملاً أساسياً في تحقيق الأمن المجتمعي، وهو مفهوم حديث للأمن قدمته مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية بقيادة بيري بوزان وزملائه. ويُقصد بالأمن المجتمعي قدرة المجتمع على إعادة إنتاج أنماط خصوصيته، كاللغة، والثقافة، والهوية، والقيم، والعادات، والتقاليد في ظل الظروف المتغيرة والتهديدات الثقافية للعولمة والهجرة في المجتمعات المتعددة ثقافياً، مثل المجتمع الإماراتي. بعبارةٍ أخرى، فإن الأمن المجتمعي معنيٌ أساساً بالحفاظ على الهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي، وما يتضمنه ذلك من الحفاظ على القيم الأساسية والعادات والتقاليد وأنماط السلوكيات في المجتمع في ظل الظروف المتغيرة.
وعليه، فإن مبادرة عام المجتمع هي مجهود محمود من القيادة الرشيدة لتعزيز الأمن المجتمعي في دولة الإمارات؛ حيث إنّ المبادرةُ تسهم وبشكل مباشِر في تعزيز التلاحم الاجتماعي، وتقويةِ الروابط بين أفراد المجتمع بمختلفِ فئاته، وتعزز روحَ الوحدة والتلاحم. والواقع أنّ مبادرةُ «عام المجتمع» هي استمرارٌ لإرث الشيخ زايد، الذي كرس حياتَه لبناء مجتمع متماسك ومتضامن، بوصفِه الأساسَ لنهضة الإمارات ورفاهيةِ شعبها. فقد عمل الشيخُ زايد على ترسيخ القيمِ التي تضمن الحفاظ على الهوية الوطنية والتماسكَ المجتمعي؛ مثل حبَّ الوطن والانتماءَ إليه، والتمسك بالاتحاد وروحِ الوحدة بين أبناء الوطن، والخوفُ على الوطن الذي جعله كالخوف على الأبناء، احترام الكبير، والعطف على الصغير، وحماية التماسك الأسري، وزرع ثقافة التطوع والمسؤولية الاجتماعية، وحب الخير.
والواقع أن التلاحم المجتمعي يشكل جوهر الهوية الإماراتية، ويضمن استقرار النظام الاجتماعي الإماراتي الذي أسسه زايد، والذي يقوم على التوافق والالتزام القيمي والأخلاقي بين أفراده. كما أنّ التلاحم والتماسك المجتمعي هو درع الوطن لمواجهة التهديدات التي تحيط بمنظومة القيم الإماراتيّة في ظل العولمة.
وفي بحثنا عن مصادر التلاحم المجتمعي في دولة الإمارات، والتي تعزز أمنها المجتمعي، وجدنا التقاليد القبلية التي تجعل عدم التخلي عن الإخوة والأصدقاء وقت الشدة والتلاحم والشهامة من أهم معايير الشرف القبلي، والحضارة العربية الإسلامية التي أعلت قيم التكافل والتضامن والإنصاف، وجهود الآباء الأوائل، وعلى رأسهم الشيخ زايد، في بناء مجتمع متكاتف.
وثمة ثلاثة مستويات للتلاحم المجتمعي في الإمارات، وهي التماسك الأسري، والمسؤولية المجتمعية، والتسامح والتعايش المشترك. فينهض التلاحم المجتمعي أولاً على التماسك الأسري ويرسّخه. وتحقق المسؤولية المجتمعية التواصل والتفاعل المجتمعي بين المجتمع وأفراده، وتقوم على التكافل الاجتماعي والشراكة المجتمعيّة وثقافة التطوع.
كما يرتبط التلاحم المجتمعي بقيمة التسامح الإنساني التي تُعتبر إرثاً ثقافياً في مجتمع الإمارات منذ حضارة ماجان وأختها ميلوخا قبل خمسة آلاف سنة. وقد رسخ الشيخُ زايد نموذجاً إماراتياً رائداً للتسامح، وجعل من دولة الإمارات منارة للتسامح والمحبة والعيشِ المشترك. فقد نظرَ، رحمه الله، إلى كل البشر باعتبارهم بشراً، بصرف النظرِ عن اختلافاتهم، وفتح أبوابَ الإمارات أمام الجميع من دونِ استثناء. ومن مقولاته، طيب الله ثراه، أنّ «التسامح واجب.. إذا كان أعظمُ العظماء الخالق -عز وجل- يسامح، فما بالنا نحن البشر». ويعيش على أرض الدولة أكثر من مئتي جنسية ينتمون إلى أكثر من مئة قومية مختلفة في ظل بيئة قانونية ومؤسسية تحمي قيم التسامح وترسخها.
يشكل الكرم والعطاء أهم وسائل تحقيق التلاحم المجتمعي في عام المجتمع. وفي مؤشر القوة الناعمة لعام 2025، حصدت دولة الإمارات المركز الرابع عالمياً في الكرم والعطاء؛ حيث أصبح العمل الإنساني سمةً أساسية مقترنةً باسم الإمارات. وقد قدمَ الشيخُ زايد نموذجاً عالمياً في العطاء، ومدِّ يدِ العون لجميعِ الدولِ والشعوبِ، من دونِ تمييزٍ أو تفرقة. فقد زاد حجمُ المساعداتِ الإماراتيةِ خلالِ فترة حكمه، غفر الله له، على 90 مليار درهم، وتخطّى عدد الدولِ المستفيدةِ منها 117 دولة. ولإحياء تراث زايد الخير، أطلق صاحبُ السمو الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، حفظه الله، العامَ الماضي «مبادرة إرث زايد الإنساني» بقيمة 20 مليار درهم، تخصّص للأعمال الإنسانية في المجتمعات الأكثرِ حاجةً حول العالم.
وأخيراً، لتعزيز التلاحم المجتمعي في عام المجتمع، فإنّ الأمر يتطلب تعزيز ثقافة العمل التطوعي في قضايا اجتماعية عامة في جميع أنحاء الدولة، وتكامل الأدوار بين الجهات المحلية والاتحادية لتحقيق الأهداف التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمجتمع وفئاته المختلفة.

[email protected]

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"