أليس ضروريّاً أن نحطّ رحال العتاب قبل نهاية الشهر الفضيل، الذي أرادت شركات الإنتاج، مع سبق الإصرار والترصّد، جعله مهرجاناً للمسلسلات؟ لا يتخذنّ أهل الدعابة هذا الكلام ذريعةً لادّعاء أنه لولا الملامة، ما بقيت وشيجة تربط الكثيرين بتلك الأعمال، التي لو كانت مسلسلةً، ما شهد الناس كل ضروب الانفلات؟
لا شك في أن غياب البحث العلمي يشكل عامل ضغط على وسائل الإعلام، التي تشعر بالمسؤولية، فالوسائط السمعيّة البصريّة ليست مراكز بحث علميّ تُجري تحقيقات في أسباب انخفاض منسوب القيم الثقافية، منذ النصف الأخير من القرن العشرين، أو ما يُقارب تلك الحقبة؟ عمليات حساب المقارنة سهلة بسيطة. الغريب على نطاق عربيّ شامل، هو أن القاهرة لم تكن الوحيدة في التألق الجماعي ثقافيّاً، فكريّاً وفنيّاً، وإن كانت عاصمة أرض الكنانة شمسَ المنظومة. لقد عاشت العواصم العربية الأخرى، في عقود الازدهار الثقافي نفسها، أي بين 1920 و1960، حركات ثقافيةً واسعة التنوّع، زاخرةً بالعطاءات. ثم «وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي». يقيناً، نتمنى ألّا نقول: «وغيض الماء وقُضي الأمر».
علينا ألّا ندع دم المسؤولية يتوزع بين الفئات التي يُفترض فيها حمل الأمانة. نحن أمام أوساط هوت بالجملة وبالتزامن. تزامُنُ الهبوط، سبق المزامنة في المعلوماتيّة. لا مجال لعرقلة مسار التحقيقات لوجود فئة قليلة من«إلّا من رحم ربّك». القاعدة واضحة: إلّا أداة استثناء. على المعنيين بالشأن الثقافي، أن يفسّروا لنا الظاهرة المريبة: ما هو الدور الذي تلعبه المعاهد الموسيقية، ومدارس الفنون الجميلة، في أقسام الفنون المسرحية أوالدرامية تحديداً؟ هل هي معامل تفريخ لا غير؟ لماذا يلعب المعهد الموسيقي في باريس أدواراً محوريّةً، من بينها جائزة لكل أوروبا في آلة البيانو، ومثلها مسابقة البيانو للمعهد الموسيقي في موسكو؟ مناهج الفنون تتحمّل جانباً كبيراً من المسؤولية. الكفاءات الفنية والمواهب الحقيقية ترفض الهبوط.
ثمّة ما هو أعجب، ففي البيئة الفنّيّة التي توارى فيها الكبار وانهارت منظومة القيم الثقافية، صارت العلاقات العامّة تنشر فيروسات مؤذيةً، مثل جمال المطربة الذي يمسي أهمّ من صوتها، خصوصاً إذا لم تكن قد درست الموسيقى، ولهذا نظائر في التمثيل. القائمة طويلة: السيناريو الزهيد، المخرج الزهيد، الممثل الزهيد، ويتدخل الشيطان، تصير«المحسّنات البديعية»: اللغة الناشزة والمشاهد المستنكرة، بدعوى حرّيّة الإبداع وتصوير الواقع.
لزوم ما يلزم: النتيجة التأسيسية: لا شيء يصنع الفن الجادّ، غير المناهج الجادّة، التي تبني الفن والفنّان الجادّين.
[email protected]
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







