منصور الشامسي*
الولايات المتحدة تدفع بأوروبا لتكون مستقلة عنها. لماذا؟
هناك خلاف أمريكي – أوروبي حالياً، والسؤال يطرح نفسه: هل بإمكان أوروبا أن تكون مستقلة عن الولايات المتحدة؟ وهل الاتحاد الأوروبي يُعدّ قوة مؤثرة في العلاقات الدولية وتتمتع باستقلال سياسي واقتصادي وعسكري؟
أوروبا، (الغربية) تحديداً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 اعتادت على حلفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، واعتمدت أمنياً ودفاعياً على القوة الدفاعية الأمريكية، وهذا قلل من إنفاقها الدفاعي، وجعل أوروبا تركز على التنمية الاجتماعية الداخلية. لكن هذا الوضع بدأ في التغير طبقاً لقاعدة التغيّر في العلاقات الدولية.
في ديسمبر/كانون الأول 2025 هدّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في حال لم يعامل أعضاؤه بلاده «بشكل عادل» و«يسددوا فواتيرهم»، بمعنى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل أعباء الدفاع عن أوروبا. هناك أسباب «لوجستية» تدعو الرئيس الأمريكي لذلك منها أزمة الديون، وتكاليف إعادة بناء البنية التحتية الأمريكية، وهناك قضايا اجتماعية وتنموية وعُمالية مُلحة تتطلب استثمارات داخلية كبيرة. كما أن نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، في خطابه بمؤتمر ميونيخ للأمن، في 14 فبراير/شباط 2025، غَيّر من عناصر التهديد التي تواجه حلف الناتو، بشكل جذري، بأنها ليست روسيا ولا الصين، وإنما هناك عناصر أو قوى تهديد داخلية، أي داخل دول الحلف، منتقداً بشدة السياسات المحلية للحكومات الأوروبية، ومطالباً إياها بالمساهمة الفعلية في تحمل أعباء الدفاع والأمن الأوروبي. كذلك، حذر وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، قائلاً بأن «الولايات المتحدة لن تتسامح بعد الآن مع علاقة غير متوازنة تشجع على التبعية، بل إن علاقتنا ستعطي الأولوية لتمكين أوروبا من تحمل المسؤولية عن أمنها»، وشدد على أن «الدول الأوروبية يجب أن تزيد من إنفاقها الدفاعي».
في 2017، تحدث الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون عن مفهوم «السيادة داخل الاتحاد الأوروبي» و«الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا، وهذه دعوة لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. وكان يُكرر دعوته هذه باستمرار خاصة مسألة النأي بأوروبا عن التكتلات والصراعات الكبرى، ويقصد بذلك الابتعاد عن «الصراع الأمريكي – الصيني». حقيقة، هناك فوائد تجنيها أوروبا من علاقاتها الاقتصادية مع الصين، ولا يريد الرئيس ماكرون أن تتأثر سلباً العلاقات الاقتصادية الأوروبية الصينية المتنامية بالخلاف الأمريكي – الصيني حول مواضيع التجارة وتايوان.
كذلك، هناك قلق أوروبي من سياسة «توسع روسية» – وهذا ما يجعل أوروبا تجنح للمحافظة على حلفها التاريخي مع الولايات المتحدة. لكن إذا ظلت الولايات المتحدة مركزة على منطقة المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي ومواجهة الصين في حالة تدخلها أو غزوها لجزيرة تايوان، فهذا سيدفع الولايات المتحدة لنقل قواها العسكرية من أوروبا لتلك المنطقة، وبالتالي إفراغ أوروبا من القوة العسكرية الأمريكية، أو تقليصها، وهذا ما يخشاه الأوروبيون الموالون للولايات المتحدة. يأتي الحل الأمريكي بدعوة الاتحاد الأوروبي لزيادة إنفاقه العسكري، وأن تخصص أوروبا نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، وهناك تقديرات أن تنفق الدول الأوروبية الخَمس الأكبر في حلف شمال الأطلسي 2.7 تريليون دولار إضافية خلال العقد المقبل، وهذا بلا شك سيكون على حساب نظام «دولة الرفاه» وأنظمة الرعاية الاجتماعية في أوروبا، خاصة في دولها الكبرى كألمانيا، كما أن زيادة الإنفاق العسكري تؤثر سلباً في المالية العامة وحشد الاستثمارات لأجل تحقيق الطاقة النظيفة في أوروبا، مما سوف يزيد الضغوط الداخلية على الحكومات الأوروبية.
الاتحاد الأوروبي في فترة رئاسة جو بايدن (2021- يناير/كانون الثاني 2025) كان في تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة مسانداً لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وهذا التحالف تعرض للانهيار بحدوث التقارب الأمريكي – الروسي مع بدء الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب الذي أوقف الدعم لأوكرانيا. الاتحاد الأوروبي من جانبه عمل على تعويض انحسار الدعم الأمريكي لأوكرانيا بتقديم الدعم المالي والعسكري لها.
في إطار التقارب الأمريكي – الروسي، فإن الرئيس دونالد ترامب يتحدث عن «التعاملات الاقتصادية التنموية الكبرى» التي ستتم بين الولايات المتحدة وروسيا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، في حين أنه أعلن عن جهوده لإعادة صياغة قواعد التجارة العالمية، والتي من ضمنها فرض حزمة جديدة من الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي غير الرسوم الجمركية السابقة المفروضة على المعادن. في المقابل، بدأ الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على شركات أمريكية. أي أن هناك حرباً تجارية بين الطرفين.
هذه المتغيرات تؤدي لحدوث فجوة وتباعد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وسوف تزيد من نسبة احتمالات حدو ث «الاستقلال الأوروبي» أو «الانفصال» عن الحليف الأمريكي، أو تقليل الاعتماد عليه خاصة من ناحية أمنية وعسكرية. القادة الأمريكيون بدأو يشعرون بأن أوروبا أصبحت عبئاً على الولايات المتحدة، ولم تعد قادرة على لعب دور (الحليف الموثوق) الذي «يُستفاد» منه و«يُعتمد عليه»، في إدارة العلاقات الدولية، ولهذا فإن التحالف مع روسيا، والتفاهم المحتمل القادم مع الصين، كقوى عظمى، يكونانِ أفضل، في هذه الحالة للولايات المتحدة، وأكثر فائدة.
* باحث علمي – تنمية بشرية