الشارقة: جاكاتي الشيخ
«ديوان الحماسة» لأبي تمام واحد من أقدم كتب الاختيارات التي تزخر بها مكتبتنا العربية، وأهمّها، حيث كان للذوق الرفيع الذي تمتّع به مُؤلّفه، وسِعة اطّلاعه دور كبير في نجاحه حتى وصل إلينا، إذ تمكّن فيه من جمع أجود ما اطلع عليه من شعر قدماء العرب، سواء عن طريق القراءة أو عن طريق الرواية، حتى قيل إنه كان أشعر فيه من شعره.
إن كتاب «ديوان الحماسة» مصدر مهم من مصادر التراث العربي بشكل عام، والأدبي بشكل خاص، والشعر القديم بشكل أخص، حيث يقف القارئ فيه على كنز من كنوزه الثمينة، التي تقدم هذا الشعر بلغته الرصينة، وفنونه الرائقة.
يتضمن «ديوان الحماسة» قصائد من عيون الشعر العربي القديم، وتذكر المصادر أن أبا تمام لم يطلق عليه هذه التسمية، بل كان يسمّيه «الاختيارات من شعر الشعراء»، إلا أن الكتاب اشتهر بعده باسم «ديوان الحماسة»، وِفْق ما درَج عليه الأقدمون من تسمية بعض الكتب بما تبدأ به.
ولأن هذا الديوان من كتب الاختيارات، كان على أبي تمام أن يرتب نصوصه ترتيباً يسمح للقارئ بالاستمتاع بها، والاستفادة منها، دون أن يتشتّت ذهنه، فعمد إلى ترتيب القصائد الواردة فيه حسب المعاني الشعرية، لتشمل الأغراض المختلفة، حيث بدأه بباب الحماسة، وكان أغزر الأبواب وأهمها، وربما يكون ذلك سبباً آخر في تسمية الكتاب، ثم أتبعه بأبواب أخرى هي: باب المراثي، وباب الأدب، وباب النسيب، وباب الهجاء، وباب المديح والأضياف، وباب الصفات، وباب السير والنعاس، وباب المُلح، وقد اشتمل الشعر الوارد في هذه الأبواب على قدر كبير من الحكم والأَمثال، وغيرها من التعبيرات والمعاني البليغة، التي صاغها الشعراء العرب في قوالب شعرية متنوعة البحور، فاشتهرت بين الناس.
ويلاحظ القارئ أن معظم اختيارات أبي تمام في الكتاب لشعراء من الجاهلية، وصدر الإسلام، والعصر الأموي، فيما أورد بعض المقطوعات لشعراء عباسيين.
ولم يكن مستغرباً من أبي تمام أن يجمع كل تلك الاختيارات الشعرية الرائعة، حيث كان لمعاييره التحديثية أثر واضح في اختيار جيد الشعر، منطلقاً من كونه واحداً من رواد الحركة التجديدية في الشعر إبّان العصر العباسي، فحرص على أن يلتزم بالمحافظة على معطيات الحضارة القديمة، مع الأخذ بالأطر الجديدة للشعر، فكان مذهبه في ذلك يجمع بين عناصر عدة هي العقل، والوجدان، والزخرفة، دون أن يغفل خصائص اللغة العربية الصافية، ودلالات محتويات ألفاظها وعباراتها.
أثر
كان لكتاب «ديوان الحماسة» أثر كبير لدى الأدباء والدارسين على مرّ العصور، فاهتموا بقراءته، وأعجبوا بما قدمه فيه أبو تمّام من مقاطع تعد من عيون الشعر العربي، فدرّسوه، وفسّروه، وأقدم على شرحه العديد من العلماء والأدباء، حيث عرف من تلك الشروح قرابة عشرين شرحاً، منها شروح ابن جني، والمرزوقي، والصولي، والشنتمري، والخطيب التبريزي، والعكبري، ولم يصل منها إلا القليل، كما لم يطبع منها إلا شرح المرزوقي وشرح التبريزي.
وكان من آثار تأليف هذا الكتاب كذلك أن سار العديد من المؤلفين على منواله، فألّفوا كتباً أخرى سمّيت بالحماسات، منها: حماسة أبي عبادة البحتري، وحماسة الخالديين، وحماسة أبي هلال العسكري، و«حماسة الظرفاء» للزوزني، وغيرها.
ومن نسخ الكتاب التي عثر عليها، نسخة المخطوطة المحفوظة في مكتبة كلية الآداب في جامعة بغداد، والتي رواها أبو منصور الجواليقي بالسند المتّصل، حتى وصل إلى أبي تمام، ومن طبعاته مستقلّاً عن شروحه، طبعة كلكتا في الهند سنة 1856م، وطبعة دار الرشيد للنشر ببغداد سنة 1980م، بتحقيق الدكتور عبد المنعم أحمد صالح.
إضاءة
أبو تمام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أحد كبار الشعراء في التاريخ العربي، وأمراء بيانه، عاش بين 188ه/ 803م و231ه/ 845م، ، حيث ولد بقرية جاسم في حوران السورية حالياً، إبّان حكم هارون الرشيد، حفظ الشعر منذ طفولته وصار يقلد الشعراء، وعندما شبَّ سافر إلى مصر، وتردد على جامع عمرو بن العاص في الفسطاط، حيث استمع إلى الشيوخ الذين يلقون الدروس في اللغة، والنحو، والفقه، وعلوم الدين، واستقى من أدب العلماء والشعراء، حتى أبدع في هذا المجال، وتفرّد فيه بعبقرية نادرة، وأصبح شعره مطبوعاً بالقوة والجزالة، وله استخراجات عجائبية ومعان غريبة، حتى اختُلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري، سمع به المعتصم، فطلبه، وقدمه على الشعراء، وتوفي بالموصل. وكشفت مؤسسة جائزة البابطين مؤخراً عن العثور على قصائد جديدة له، في تبريز بإيران، لم تنشر، يصل عددها إلى 348، ومن مؤلفاته الأخرى: «فحول الشعراء»، و«مختار أشعار القبائل»، الذي اختار فيه من كل قبيلة عربية قصيدة، وتُنسب إليه «نقائض جرير والأخطل»، بالإضافة إلى ديوان شعره.