من سماحة الإسلام أنه لم يقصر بر الوالدين والإحسان إليهما على الوالديْن المسلميْن، وإنما أمر ببرّهما حتى وإن كانا على غير ملة الإسلام، بشرط أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فعن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص: أنه نزل فيه (أي: في سعد بن أبي وقاص) آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: فمكثتْ ثلاثًا حتى غُشِي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة، فسقاها، فجعلتْ تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا» (لقمان: 15).
للوالديْن في الإسلام منزلة عظيمة، ومكانة رفيعة، حيث يأتي الأمر بالبر بهما والإحسان إليهما – أحياءً وأمواتًا - في آيات القرآن الكريم عقب آيات الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» (الإسراء: 23 و24)، ويقول جلَّ شأنه:«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» (النساء:36). وقال تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» (البقرة: 83).
سُئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن كيفية بر الوالدين بعد وفاتهما، فقال السائل: يا رسول الله، هل بقيَ من بر أبويَّ شيء أبرهما بعد وفاتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما».
ولسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصة في حرصه على بر أمه، وقد ماتت وعمره صلى الله عليه وسلم ست سنوات. فعن عبد الله بن مسعود، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيًا، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ فجاء فجلس إلينا، فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم، قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه.
من البر بالوالدين والإحسان إليهما في نهج النبوة، الدعاء لهما، فهذا سيدنا إبراهيم، يدعو لوالديْه وللمؤمنين جميعًا، كما جاء في قول الله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» (إبراهيم: 41)، وهذا سيدنا نوح، يدعو لوالديْه وللمؤمنين به أيضاً، كما جاء في قول الله تعالى: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا» (نوح: 28).
أكد صلى الله عليه وسلم، أن أفضل الأعمال بعد أداء الصلاة على وقتها، بر الوالدين، فقد سئل صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ فقال: «الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي: قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله». ورُوِي أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد.
عناوين متفرقة
قد يعجبك ايضا







