الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
تتشكل اتجاهات الإنسان وأفكاره في الحياة وموقفه من الأشياء منذ الطفولة، تلك الفترة الغامضة والساحرة في ذات الوقت، ولعل قلة من الكتاب والروائيين تناولوا تلك الحقبة الخفية في تطور الإنسان، فدائماً ما تحدّثنا الأعمال السردية عن حكايات رجال ونساء في سن النضج، بحيث لا تظهر مرحلة الطفولة إلا عبر طيف يحمله شريط الذكريات.
رواية «الطفل في أوانه»، للكاتب البريطاني إيان مكيوان، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات، عام 2023، بترجمة جلال خليل، واحدة من الأعمال السردية المدهشة، والتي تغوص عميقاً في عالم الطفولة، حيث تمارس فعل التفكيك لحيوات الرجال والنساء الناضجين، وكيف صاروا ما هم عليه الآن عبر تتبع مسار طفولتهم حيث مستودع الأسرار، والعمل يركز بشكل كبير على تلك الحياة العجيبة التي يعيشها الأطفال من حيث أفكارهم وتجاربهم وتصوراتهم حول الحياة، ويأخذنا المؤلف إلى تبيان مآزق الطفولة والنضج، وسيولة الزمن التي لا تعترف بأن الإنسان يقطع في حياته مراحل منفصلة وواضحة الحدود، فهناك منعطفات يعيشها المرء في مسيرته الحياتية في طفولته ونضجه ثم عندما يتقدم به العمر، ولكل مرحلة خصوصيتها، ولكن تظل الطفولة الأثر الباقي في أعماق كل رجل وامرأة، واستطاع الكاتب أن يعبّر عن تلك العلاقة بين الإنسان ومراحل تكوينه الأولى بصورة عميقة بكثير من الرؤى المعقدة.
* استعادة
استطاع المؤلف أن يعبّر عن أفكاره وتصوراته حول عالم الطفولة في الرواية من خلال حبكة حكائية متقنة، تحمل الكثير من الأحداث المتشابكة والحواريات والرؤى الفلسفية والنفسية، عبر قصة رجل يواجه محنة كبيرة شديدة القسوة عندما فقد طفلاً له، وتُبرز دار نشر روايات أحد المقاطع كعتبة نصية توضح وتفسر جوانب الرواية، جاء فيها: «يواجه ستيفن، وهو مؤلّف كتب الأطفال، حادث اختطاف طفلته كيت، في لحظة سريعة أثناء تسوّقهما معاً في البقالة. حدث ذلك في عطلة نهاية الأسبوع، حين ترك زوجته نائمة ترتاح، فلا يعرف الآن ماذا يقول لها، وكيف يبرّر اختفاء طفلتهما الوحيدة». تسبر الرواية مصير العلاقة بين الزوجين، وكيف يبدأ ستيفن في استعادة صور طفولته وعُقدها غير المحلولة حين يدخل زواجه إلى منطقة الهجران المظلمة، حيث يقرّر كل منهما مصارعة حزن فقد الطفلة وحيداً.
* مصائر
كان لذلك الحادث أثر سيئ على الكاتب وزوجته، فأحداث الرواية تأخذنا إلى عالم مظلم من زواج دمره فقدان طفلة، ووضع غياب كيت، ستيفن وزوجته جولي على مسارات متباعدة، حيث يكافح كل منهما مع حزن يبدو أنه يزداد حدة بمرور الوقت، لم يعد في إمكانهما التواصل معاً، فقدا الرابط الذي كان يجمعهما وهو تلك الطفلة، فأسلمهما ذلك الحادث المشؤوم إلى مصير لم يتوقعاه وهو الافتراق، ليعيش كل واحد منهما تفاصيل حزنه الخاص، ظلت جولي شاردة الذهن لا يبدو أفق أمامها ينتشلها من تلك المأساة التي اعتبرتها نهاية العالم، بينما لجأ ستيفن إلى عالم طفولته، فقد كان ذلك الفقد فادحاً بالنسبة له كمؤلف قصص وعضو أيضاً في لجنة حكومية مكلفة بإعداد دليل حول تربية الأطفال، فقد كان ينسج تفاصيل حكايات مصورة وملونة تتحدث عن السعادة والتحدي والمغامرات وكل ما يجعل حياة الصغار جميلة، لكنه يفجع في العالم الذي أحبه وانتمى إليه، وطَرْقُه مجال الكتابة القصصية للأطفال هو الطريق الذي اختاره ليظل مرتبطاً بعالم الطفولة، لكن الآن يفقد صغيرته البريئة الحالمة التي ربّاها على حكاياته التي كان يؤلفها، فكان وقع ذلك الأمر شديداً عليه وفوق احتماله، وهو ما أثر في علاقته بالآخرين، ليس زوجته فقط، بل كذلك أبواه وعائلته وعمله، لقد شعر بأنه خسر كل شيء، والمفارقة أنه قد يظن أن الطفولة شيء خالد، لكن تلك الفكرة تتبدد الآن، ليواجه ستيفن اعتقاداته وتصوراته تلك.
* نهاية مفتوحة
حفلت الرواية بالكثير من العوالم الثقيلة القاسية، لكن فيما يبدو أن الكاتب حاول تخفيف حالة البؤس تلك وكسرها عبر مشاهد ختامية بليغة ومشحونة بالعاطفة، وهي تعلن اقتراب التقاء الزوج والزوجة في لحظة ينتصر فيها الحب والأمل في الخلاص من العذابات التي لازمت مسيرة تلك الأسرة المكلومة، لكن الرواية لا تعلن صراحة ذلك الأمر، بل تجعل الخاتمة مفتوحة يشعر من خلالها القارئ بأن الحب سينتصر في النهاية.
* استقبال
كُتبت الرواية في عام 1987، وعبّرت عما فيه من وقائع وصراعات اجتماعية وسياسية، والأمل الذي كان يحدو الشباب في غد أفضل، واستُقبلت بصدى كبير كحال أعمال المؤلف الأخرى، حيث أُدرجت ضمن أفضل 100 كتاب لا غنى عن قراءتها، وحازت تلك القطعة السردية الأنيقة جائزة «ويتبريد»، البريطانية في مجال الأدب.
* أساليب
وظّف الكاتب في هذه الرواية العديد من الأساليب والتقنيات في محاولة لصناعة عمل سردي مهم ومختلف، فقد قصد أن يتمعن القارئ في معاني الرواية، فهي قطعة سردية تأملية بامتياز تحرّض على التفكير، وتجعل المتلقي يستعيد أزمنة الطفولة بشكل أكثر اختلافاً بغرض تحليل وتفسير الكثير من العقد.
عمل المؤلف على استخدام لغة نثرية أنيقة وعاطفية تنفذ إلى الوجدان، ويشير بعض النقاد إلى أن هذه الرواية، على العكس من الأعمال الأخرى للكاتب ماك إيوان، قد اقتربت بشكل كبير من تيار الواقعية السحرية، خاصة في ما يتعلق بطبيعة الزمن، حيث يتحول حاضر بطل القصة ستيفن إلى حلقة من ماضي والديه، حيث نرى كيف بإمكان الزمن أن يتسارع أو يتباطأ في أذهاننا، اعتماداً على الحالة النفسية التي نمر بها، كما أن الرواية عامرة بالصور والمشهديات المتعلقة بفكرة الزمن تلك من حيث التباطؤ والسرعة والسكون، وتخلق الرواية مشهداً متخيلاً لقطار ينطلق من لندن من الماضي إلى الحاضر، يحمل معه ذكريات والدي بطل الحكاية، حيث كان ستيفن يراقب قصة والديه عندما كان طفلاً، وتتجلى براعة الكاتب في قوة الوصف للشخوص والأماكن والمشاعر الواضحة والخفية، وفي تحليل دواخل الإنسان، واكتشاف كيف كانت طفولته، وتمثلت البراعة الكبرى في صناعة شخوص الرواية المؤثرين، ستيفن، وزوجته، ووالده، وأمه، وابنته التي فقدت والتي ظل يتخيل صورتها بشكل مستمر حتى بات لا يفرق بين الواقع والخيال.
ولعل من الأساليب التي لم يستخدمها الكاتب في روايته السابقة توظيف حس الفكاهة من أجل تمرير العديد من المواقف الصعبة، وكذلك السخرية السياسية بصورة ممتعة ومسلية، كما أن العمل يشتمل على الكثير من التصورات والأفكار المخيفة مثل الخوف من احتمال قيام حرب نووية تقضي على العالم، وتلك الفكرة كانت سائدة في وقت كتابة الرواية، كما تشتمل على نظريات حول علاقة الإنسان بالزمن، وربما ذلك ما جعل الرواية تتسم في بعض جوانبها بالغموض.
* اقتباسات
«يظن الأطفال أنهم خالدون».
«الأطفال في أعماقهم أنانيون».
«بعد سن معينة يتجمد الرجال في مكانهم».
«يميل الرجال إلى الاعتقاد بأنهم، حتى في الشدائد، متّحدون مع أقدارهم».
«الطريقة التي يفهم بها الناس الأشياء لها علاقة بالطريقة التي كانوا عليها».
«اعتقد ستيفن أنه إذا استطاع أن يفعل كل شيء فسوف يكون رجلاً سعيداً».
«العادة قابلة للكسر».