.. إلى الآن، يتذكر الكثير من المشاهدين للدراما التلفزيونية شخصية (جان فان جان) التي قام بها الممثل اللبناني الكاريزمي (أنطوان كرباج 1935-2025) صاحب الوجه التعبيري القوي، والقابض بحرفية درامية على اللغة العربية في أعماله المسرحية والتلفزيونية خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين: «المفتش»، و«أوراق الزمن المرّ»، وإلى جانب أعمال مسرحية وتلفزيونية أيضاً مأخوذة عن آداب أجنبية: «فاوست»، «مكبث»، «الذباب» لسارتر، و«القصر» لفرانز كافكا، وهو أيضاً شخصية مميزة دائماً في الأعمال الرحبانية الملك غيبون في مسرحية (ناطورة المفاتيح)، وشخصية المهرّج في مسرحية محمد الماغوط (المهرّج).
تراث إبداعي فني استثنائي عمل عليه ابن (زبوغا).عرفه جيداً البيروتيون المثقفون والنخب الفكرية والأدبية العربية التي كانت تعيش في لبنان السبعينات والثمانينات، كما عرفه العرب في مصر وبلاد الشام والعراق والمغرب العربي في زمن ثقافي تلفزيوني ومسرحي وسينمائي، كان خلاله عرض أي عمل هابط بمثابة إهانة للثقافة والفن والجمال.
في زمن الهبوط والسذاجة والتهريج، نتذكر رجلاً في قامة أنطوان كرباج، وهند أبي اللمع، وعبد المجيد مجذوب، وأحمد الزين، وغيرهم ممّن كانت العربية متعة لغوية وجمالية على ألسنتهم الفصيحة سواءً أكانوا على خشبة مسرح أو أمام كاميرا سينما أو تلفزيون.
في جزء مهني من حَيَوات تلك النماذج المسرحية والتلفزيونية والسينمائية لم يكن التلفزيون الملوّن قد دخل إلى بيوتنا الشعبية والبسيطة تلك قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. كانت المادة التلفزيونية بالأبيض والأسود، وكانت الخيارات محدّدة أيضاً.. إمّا ثقافة بيضاء وإمّا ثقافة سوداء. إما عمل فني شعبي أو نخبوي مؤثر وناجح، وإمّا عمل ضعيف منبوذ.
أنطوان كرباج وجيله اللبناني والعربي كان ظاهرة ثقافية تلتقي في جوهرها الإبداعي والأخلاقي مع ظواهر اجتماعية، وسياسية، وأدبية محكومة أولاً وأخيراً إلى الالتزام والمسؤولية.
غياب أنطوان كرباج ورفاقه ورفيقاته من الفنانين الكبار، الكاريزميين مرّة أخرى، يقابله اليوم حضور ملوّن أرعن للبعض. فالكثير من فناني الصبغة والدهان المثير للغثيان والتلوث البصري والصوتي معاً داخل صندوق يشبه صندوق (باندورا) الذي ما إن ينفتح حتى تخرج منه الأفاعي والكائنات ذات الوجوه البشرية القارضة المؤذية.
هل ما نكتبه الآن هو شكل من أشكال الحنين الرومانسي إلى مرحلة بيضاء وسوداء؟.. فليكن الأمر كذلك، إذا كانت الرومانسية أجمل من واقعية الزيف والكذب المركب على الإنسان والحياة والثقافة.
[email protected]
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







