عادي

ليالٍ وموّال

23:57 مساء
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

في ليلة العيد، يحضر المتنبي دوماً، ربما منذ عقود طويلة، مُردّدين قوله:

عيد بأية حالٍ عدت يا عيدُ

بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ

الذي قاله في مرحلة تصدع سياسي، واضطراب، وصراعات عاشها العرب والمسلمون.

***

تحضر أيضاً في ليلة العيد صور مماثلة في هذا الزمن: صرخة طفل، بعد قصف «مُسَيّرة» فاشية منزله، وهو يدعو «يارب أمي تبقى عايشة»، وصور مئات الآلاف من عرب اليوم، تائهون في العراء. مشاهد تراجيدية مخيفة في أكثر من مكان، ضحايا اقتتال أهلي، أو احتلالات ووحشية، يهربون من مكان إلى آخر.

***

يتساءل «متنبي» آخر: هل عرفتم تلك البرودة الزمهرير في الأيدي المتشنجات، التي تبحث عن شاهد قبر من القبور في عتمة الليل، وفي مساءات يطير فيها السنونو على غير هدى.

وهل هاجمتكم ريح الإحباط في لحظات انتظار ساعة الإفطار وتهيُئاً لقضاء سهرة تتدفؤون فيها على جمرة (شيشة/ أركيلة)، ومسلسل تافه، وهرطقة أخلاقية تبث فحيحها في بر الشام، وأرض السواد، وشوارع السودان، وأماكن أخرى، لا تخفى عن الأبصار؟

***

وتحضر ليلة القبض على عمر المختار في 16 سبتمبر/أيلول 1931، الذي قاد حركة تحرير ليبيا من الاستعمار، وهو يقول قبيل شنقه: «سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي». وكتب الجنرال الإيطالي غراتسياني في مذكراته: «عندما حضر المختار أمام مكتبي، تهيأ لي أنني أرى شخصية آلاف المرابطين الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، وخُيّل لي أنه رجل ليس كالرجال، له هيبته، رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ووقف أمامي، نسأله ويجيب، بصوت هادئ وواضح».

***

وتحضر ليلة من ليالي الرواية الملحمية التي كتبها إبراهيم نصر الله «زمن الخيول البيضاء»، وعلى لسان الفتاة «سمية»، وبصوتها القادم من بئر عتمتها وكانت تغنّي موالاً يقول:

«عمّي يا أبو الفانوس، نَوِّر لي عا العتمة، خوفي الطريق يطول يابا، ويطول معك هميِّ».

***

تحضر ليلة مفجعة، هي ليلة استيلاء الفرنجة على بيت المقدس، يوم الجمعة 15 يوليو/تموز 1099، بعد حصار دام أربعين يوماً. «رأى المقدسيون مقاتلين شقراً مدرّعين بخوذ، شاهرين سيوفهم، ذابحين الرجال والنساء والأطفال، ناهبين البيوت ومخربين المساجد، لم يبق مقدسي واحد داخل أسوار القدس، حمل الناس جثث ذويهم فوق ظهورهم، وكدّسوها في قبور في الأراضي البور، ثم يحرقونها، وهربت الطائفة اليهودية إلى «كنيس»، فقام الفرنجة بسد منافذه، وكدّسوا أكوام الحطب حوله، وأضرموا النار فيه، فاحترق الموجودون في «الكنيس» وهم أحياء». (أمين معلوف: الحرب الصليبية كما رآها العرب، صفحة 15).

«لم يكن غزو بيت المقدس ليثير على الفور انتفاضة عند العرب والمسلمين، وكان لابد من الانتظار قرابة نصف قرن (نعم.. نصف قرن كما يقول أمين معلوف) قبل أن يتحرك الشرق العربي لمواجهة المجتاح».

***

تحضر ليلة من ليالي مسلسل عن سيرة البطل الشعبي الزير سالم. سيرة شعبية عاشت تارة بالرواية وأخرى بالغناء والإنشاد، ومادة أدبية إبداعية يرويها الأجداد والرواة عبر التاريخ. يحضر في تلك الليلة حوار يعبر الماضي إلى الحاضر، بين الفارس الزير سالم وابن أخيه، حول صفقة من أجل الماء، وسلام بين المتحاربين مشروط بنزع سيوف جماعة الزير سالم والحجر على الخيول.

وفي الحوار، يقول: «إن الحرب انتهت، ونحن في غنى عن حمل السيوف، طالما السلام قائم بيننا».

ويرد الزير سالم قائلاً: الحرب انتهت، ولكن هل انتهت مطامح الرجال؟ وهل وصلتم لحياة آمنة مطمئنة؟.. إن «سلام بلا خيول... هو ذُلُّ».

يحضر أيضاً مشهد ليلة من ليالي قصة أبو زيد الهلالي، بطل التغريبة العربية القديمة في القرن الخامس عشر الهجري، وصورة البطل الشعبي، وقوته الأسطورية التي تكمن في العقل وليس في الذراع (القوة) فقط.

ظلت السيرة الهلالية تُروى عبر القرون، وبقيت في ذاكرة الكثيرين من أبناء الأمة العربية..

يحتاج الوعي في هذا الزمن المكتنز بالفوضى إلى الحلم باعتبار أن الحلم قدرة نفسية دفاعية، لمواجهة الإحباط، ومن بين عناصر بناء الحلم استحضار هذه الملاحم الشعبية، كقصة أبو زيد الهلالي، صاحب الحق المهدور، بطل عادل يستطيع تحقيق أحلام أهله بإرساء العدل ونصرة المظلوم، وقصة الزير سالم في السيرة الشعبية التي جسدت حرب ال40 عاماً في الجزيرة العربية.

***

ومن مواويل الشاعر علي عبد الله خليفة (البحرين) تحضر ليلة مكتنزة بالمحبة:

يا ليت الليالي تطاوعْنا على ما نَبي

ويكون عندي لها.. ما يْحِسِن الظن بي

يمكن يصير الفَرَح لب العمر جَانبي

يا ليت أكسب رضا، وأعْطي وَلا وَنّي

وامسحْ دموع تهلْ وافزَعْ لكلْ وَنّي

واعذرْ وأسامحْ بَشرْ ليمْن تهاوَنّي

يا ليت صَدْري فَضَا، ويا ليت قَلْبي نبي

***

قال الراوي على لسان شاعر عربي متمرد:

«فُجعت زوجتي، ذات ليلة، حين رأتني باسماً، لطمت كفَّاً بكف، واستجارت بالسماء والدعاء، قلت لها: لا تنزعجي، إني بخير، لم أكن أقصد أن أبتسم، كنت أجري لفمي بعض التمارين، احتياطاً، ربما أفرح يوماً.. ربما».

...

تتكسر الأسئلة كل ليلة، إذا ما اعترفت بضراوة الأجوبة.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"