ترامب والأبعاد الجيوسياسية للدولار

00:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحسين الزاوي

يؤكد تطور الأحداث في الولايات المتحدة منذ تولي ترامب لمقاليد السلطة في البيت الأبيض، أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد وضعت الاقتصاد في مقدمة أولويتها، وتسعى لأن تجعل من المصالح التجارية لواشنطن البوصلة التي تحسم من خلالها الخيارات الجيوسياسية للقوة الأولى في العالم، وقد دفع الهوس الاقتصادي بالرئيس ترامب إلى اتخاذ قرارات غير مسبوقة من أجل التحكّم في مستوى الإنفاق الفيدرالي دون الاكتراث إلى الآثار السلبية لنمط تسييره الصارم على النسيج الاجتماعي الأمريكي.
ويرى المراقبون أن حماية الدولار على المستويين الداخلي والخارجي سيكون في مقدمة أولويات الولاية الرئاسية الثانية لترامب، وبخاصة أنه سبق وأن هدّد، أثناء حملته الانتخابية، مجموعة البريكس بفرض رسوم جمركية تصل إلى مئة في المئة، إذا قرّرت اعتماد عملة جديدة بديلة للدولار في المبادلات التجارية الدولية.
من الواضح أن الدولار ليس عملة كباقي العملات الوطنية التي تعتمدها مختلف دول العالم، إنه عملة دولية، وهي تتخذ هذه الصفة كلما قامت أمريكا بتحويلها إلى بقية دول العالم، وبدأ الدولار يتخذ هذا المنحى بشكل تدريجي منذ اتفاقية بريتون وودز سنة 1944، لأن هذه الاتفاقية لم تضع فقط اللبنات الأولى للنظام النقدي العالمي، ولكنها مثلت في اللحظة نفسها اللحظات الأولى لبداية سيادة الدولار الأمريكي على باقي العملات مثل الجنيه الإسترليني الذي ظل يمتلك قوة ضاربة خلال عقود من الزمن قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
يشير آلان مانك في معجمه حول السلطة إلى أن الدولار بات يمثل رمزاً لسلطة النقد، وأنه لا يجب المراهنة لأمد طويل على تراجعه، فالعملة الأمريكية عرفت وستعرف فترات من الضعف لأسباب تتعلق بعناصر الاقتصاد الكلي، ولكنّ هناك حدوداً لتراجعاته، فهو يتوفر على إمكانيات للعودة لا تملكها عملة أخرى. إنه عملة البلد الفائز في الغرب ويعود ذلك أيضاً وبشكل جزئي إلى النظام الذي يسود الآن في العالم.
ويملك الدولار أيضاً، تفوقاً استراتيجياً يبرز بشكل واضح كلما شهِد العالم هزات عنيفة، ونجده مدعوماً من اقتصاد أمريكي مرن ومتنوع تقوده شركات التكنولوجيا القوية، كما أنه قائم على نظام مالي لا يضاهيه أي نظام آخر من حيث عمقه، وبالتالي فإن مرور الدولار بأزمات مرحلية لا يعني أنه لن يبقى ولأمد طويل من الوقت عملة الاحتياط الأولى في العالم. وسيظل في السياق نفسه خيار الاحتياط المفضّل حتى بالنسبة لخصوم وأعداء أمريكا الذين ما زالوا يحتفظون بمبالغ كبيرة منه على غرار الصين، وذلك ما يدفع السيد«مانك» إلى الاستنتاج بأن الكوارث التي شهدها الاقتصاد الأمريكي لم تؤثر بشكل كبير في مصداقية الدولار في الأسواق العالمية.
ويذهب أوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق إلى أن واشنطن كانت تهدف من وراء اتفاقية نيوهامبشير المعروفة باسم بريتون وودز إلى إقناع المشاركين بإقامة عالم متعدّد الأقطاب قبل أن تسمح لها التحولات الجيوسياسية بتحقيق هيمنة الدولار على بقية العملات وفي مقدمتها عملة بريطانيا العظمى، ويعتبر الدولار قابلاً للتحويل إلى الذهب من الناحية المبدئية، وقيمته محدّدة ب 35 دولاراً للأونصة، وهناك نسب صرف محدّدة له في مقابل العملات الأخرى القابلة للتحويل مع إمكانية خفض قيمته تحت رقابة مباشرة، مع وضع سعر صرف جديد له. ويعتبر الدولار بمثابة العامل المشترك الذي يدور حوله النظام الدولي الذي جرى إقامته بعد الحرب العالمية الثانية. ويقول فيدرين إن فرنسا الديغولية ندّدت مبكراً بكون الولايات المتحدة تستطيع أن تعيش مديونة لمدة غير محدّدة على حساب الدائنين، وتستطيع المطالبة بتغيير احتياطاتها من الدولار إلى الذهب.
ويضيف فيدرين أن الحرب الأمريكية على فيتنام أدت إلى مضاعفة عجز الميزانية، الأمر الذي دفع واشنطن إلى مطالبة حلفائها الأوروبيين وخاصة ألمانيا بإعادة تقييم عملاتهم، فردّ الأوروبيون بدعوتها إلى خفض قيمة الدولار، وهو الاقتراح الذي رفضته بشكل قاطع، وقرّر الرئيس نيكسون، نتيجة لذلك، في أغسطس (آب)سنة 1971، الخروج من اتفاقية بريتون وودز وفصل الدولار عن الذهب، ومع ذلك فإن قيمه العملة الأمريكية لم تنهر، بل واصلت هيمنتها على الاقتصاد العالمي بفضل العولمة وتفوق الشركات الأمريكية على نظيراتها الغربية، ومن غير المتوقع أن تعود واشنطن إلى الالتزام باتفاقية جديدة تربط عملتها بعملة الدول الأخرى.
ونستطيع أن نخلص اعتماداً على تطورات الأحداث، إلى أن ترامب عازم على الدفاع بشراسة على هيمنة الدولار على النشاط الاقتصادي الدولي، وهناك من يعتقد أن حرصه على وقف الحرب في أوكرانيا وتقديم ضمانات لروسيا بشأن أمنها القومي من خلال رفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، يندرج في سياق حرصه على إبعاد موسكو عن حليفها الصيني ودفع الرئيس الروسي إلى التخلي عن مطالبه باعتماد عملة بديلة للدولار في المعاملات الاقتصادية بين دول الشرق والجنوب، الأمر الذي من شأنه أن يُضعف مواقف بعض دول البريكس الرافضة لهيمنة الدولار، وبخاصة أن الهند التي تنطلق من مبدأ الانحياز المتعدّد، تعمل بخطى ثابته لتوثيق تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن وبقية الدول الغربية الأخرى مثل فرنسا.

[email protected]

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"