عبدالله السويجي
لو قرأنا المشهد السياسي في العالم سنكتشف أمراً مثيراً للدهشة، ولا نقصد بهذا الاستنتاج أي تحريض أو (حسد) أو تشكيك بأي جهة من الجهات، ولا نوجّه اللّوم لأي أحد أو تحالف، ولكن من باب التأمّل والقراءة نطرح هذا التساؤل: لماذا، وبعد الحرب العالمية الثانية، تعيش أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا في سلام واستقرار، بينما تشهد باقي القارات والمناطق والدول قلاقل واضطرابات، ونخصّ بالذكر دول العالم العربي، (باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، وهي حالة فريدة من نوعها ساهمت ظروف كثيرة تشمل الاستراتيجيات والمنظومة القيمية وأنظمة الحكم في الأمن والاستقرار والتنمية، وكما كررنا في أكثر من مقال، إن الثروة لم تكن السبب الرئيسي في الاستقرار..). فالدول العربية الأخرى، منذ نيل استقلالها (البعض حصل عليه بعد الحرب العالمية الأولى، وآخرون استقلّوا بعد الحرب العالمية الثانية)، منذ الاستقلال لم يهدأ فيها نظام سياسي ولا شكل محدّد للحكم، ولم يتحقّق الانسجام المطلوب أو المنشود بين المكونات المجتمعية أو العقائدية أو المذهبية أو العرقية، فتعرّضت إلى انقلابات واغتيالات وفوضى، حتى إذا ظنّ الباحث أو القادة أو أصحاب القرار أن الأمر استتب لهم، نشب الاقتتال الطائفي والمذهبي والعرقي تحت مُسمّى (الربيع العربي). سيقول البعض إنه حصل (ربيع) في دول أخرى مثل أوروبا الشرقية وتفكّك الاتحاد السوفييتي، تضمن حروباً طائفية وعرقية، وهو صحيح، لكنها ما لبثت أن شهدت استقراراً استمر حتى اليوم، وما حدث بين روسيا وأوكرانيا لا يندرج تحت العناوين التي نتحدث عنها، وما نلاحظه، نكرّر، أن (الربيع العربي) أحدث شرخاً في المجتمعات لا يزال موجوداً، رغم ما يظهر على السطح في بعض الدول، أنها حقّقت الاستقرار وتسير نحو نوع من الانسجام المجتمعي.
وهذا (القلق السياسي البنيوي) ترك خلفه أجيالاً شبه أمّيه، محتقنة ومجيّشة وتحمل ثأراً للأخر، فتتربص به، حتى إذا سنحت الفرصة انقضّت عليه معلنة النفير. وما حدث في سوريا، كنموذج، في الأشهر القليلة الماضية، من نزوع بعض الأقليات نحو الاستقلال والحكم الذاتي، يؤكد عدم نجاح المنهج الثقافي ولا الشعارات القومية وغيرها، وعاد المشهد ليجسّد صراع القبائل قبل أكثر من ألف عام، أو حتى قبل الجاهلية، وهذا لا ينطبق على سوريا فقط إنما على الدول المجاورة لها التي تشبهها في تعدّد الأعراق والطوائف والمذاهب.
هل يحدث هذا في العالم العربي لأن دوله كانت خاضعة للاستعمار، أو التقسيم الذي أنتجته الحربان العالميتان؟ إذ ترك الاستعمار (دساتير متفجرة) لأنها تحرّض على وجود الطائفية، كما ترك مناطق متنازعاً عليها بين كل دولة وجارتها، أم أن المناهج التعليمية لم تكن مناسبة لبناء دول وتنمية مجتمعات؟ أم لأن بعض الدول حافظت على سلطة العشيرة حتى بدت وكأنها تتمتع بحكم ذاتي؟ أم لأن أنظمة الحكم حائرة في شكلها وممارستها؟ فالأنظمة الجمهورية تحوّلت إلى أنظمة ملكية، والأنظمة الملكية لا تعلم هل هي ملكية دستورية أم ملكية مطلقة. أم لأن مشاعر الولاء والانتماء للشعب والوطن كانت ضعيفة جداً، فانتشر الفساد وأشباهه؟ أم لأن بعض الدول تدّعي تطبيق الديمقراطية، فأنشأت أو نشأت أحزاب متباينة الولاء، حتى أصبح الوطن آخر مكان يوالونه؟ أم أنه تم اختراق الأحزاب وتجييرها لمصالح خارجية؟
كثيرون يعتقدون أن وجود إسرائيل والحروب التي نشبت بينها وبين عدد من الدول العربية هو ما منع تحقيق الاستقرار في تلك الدول، وهو اعتقاد مؤسف، كمن يحمّل كل أخطائه على الغير، إذ لم تنشب حرب منذ أكثر من خمسين سنة مع دول عديدة باستثناء لبنان، أما باقي الدول، فمن المؤسف القول إن دولة ما كانت وراء سوء التنمية ووضع مناهج تعليمية متقدّمة، وتثقيف المجتمع وتمدينه وتحضيره، وتطبيق القانون ومحاربة المحسوبيات، وبناء بنية تحتية متطوّرة، وأنظمة حكم عادلة.
أعلم أن كثيرين سيجادلونني في تساؤلاتي، وكالعادة سيلقون اللوم على الاستعمار والحروب الأهلية وغيرها، وسيطلقون شعارات بلغة ثورية حادّة، وقد يخوّنني بعضهم، ولو درسوا تجارب الدول التي خضعت للاستعمار، وهي كثيرة، ولو درسوا الثورات الكبرى في العالم، سيجدون أن القتال ضد الاستعمار كان يتم بموازاة البناء والتثقيف ونشر الوعي والنظام والقانون العام ومحاربة المجرمين والفاسدين وأشباههم، ويبدو أنه من السهولة إلقاء اللوم على الآخر لتحقيق راحة البال والضمير، قد يحدث هذا على صعيد الأفراد الذين يحبّون أن يلعبوا دور الضحية دائماً ويلقون اللوم على الآخرين في فشلهم وأزماتهم، أما أن تلعب الدول والأحزاب هذا الدور (دور الضحية) فهو سلاح ذو حدّين.
من حقّنا كمثقفين ومحللين سياسيين وعلماء اجتماع وفلاسفة-ولا أدّعي أنني من كل هؤلاء، ولكن كحديث بالإنابة- من حقّ كل غيور على الناطقين بلغة الضاد، أن يطرح هذا السؤال الكبير، ومن حقّهم أيضاً الاجتهاد بالإجابة، وأعتقد أن السؤال هو أول خطوة للحصول على المعرفة والحقيقة، ولا بأس من دراسة التجارب الناجحة في تحقيق التنمية ودولة القانون والعدل وتأمين العيش الكريم للمواطن، وأخذ العبر منها من دون حساسية، وتغليب الموضوعية والصالح العام على الفردانية والذاتية والمصالح الضّيقة.