أذكر نقاشاً دار قبل حوالي خمسة وأربعين عاماً مع الصديق غسان سلامة، حول العنوان المناسب لكتابنا «النظام الإقليمي العربي». كان اختيارنا، علي الدين هلال وأنا، عنوان «النظام القومي العربي» وهو الاختيار الذي أعرب غسان عن عدم اتساقه مع مخطوطة الكتاب باعتبار أنه، وأقصد العنوان، يعكس اتجاهاً غائياً ولا يعبر عن المناقشة الموضوعية والواقعية التي تضمنها المحتوى ويفترض أن يعكسها عنوان الكتاب.
تصادف الأيام التي نعيشها الآن اشتعال قضيتين تحتلان موقع الأهمية في قائمة انشغالات العالم. القضيتان هما قضية فلسطين وقضية أوكرانيا. يجمع بينهما أنهما أعادا إلى الأذهان وإلى ساحة العلاقات الدولية الأهمية الفائقة التي كانت تحتلها العقيدة عند مناقشة أسباب اشتعال نزاعات دولية كبرى وبخاصة الحروب العظمى. العقيدة في الحالتين، أقصد حالة حرب روسيا وأوكرانيا، وحالة حرب إسرائيل تدعمها أمريكا ضد الشعب الفلسطيني أينما وجد وكيفما وجد، هي القومية والتزام الأمم بها. الجدير بالملاحظة والتوقف عندها أنه في الحالتين وقفت دولتان عُظميان، كل منهما، ضد طرف أصغر حجماً وأضعف قوة، وفي الحالتين ترتب على تفاوت القوة مقاومة عنيفة شبهها الطرف الروسي في النزاع الأوكراني الروسي بالنازية المتجددة، وشبهها الطرف الصهيوني الأمريكي في القضية الفلسطينية بالإرهاب.
الدولتان العظميان، في الحالتين، تكذبان. وكذب الكبار في السياسة الدولية كما في الحياة العادية مسؤولية فادحة. الحقيقة الصارخة هي أن الدولتين العظميين في الحالتين أيقظتا «جني» القومية في أوكرانيا وأوروبا من ورائها، وفي فلسطين والعالم العربي من ورائها.
إلا أن الظن يذهب بالبعض بيننا أحياناً إلى أن القومية العربية ربما أدت دوراً ونجحت ثم غابت، أو أنها أدت دوراً وفشلت ثم غابت. المهم أنها في الحالتين غابت. ذهب بنا الظن نفسه إلى أن الصراعات بين القوميات الأوروبية التي تسببت في إشعال عديد الحروب في القارة بعد نشوب الثورة الفرنسية تقهقر دورها في العلاقات الأوروبية تحت هيمنة العقيدة الماركسية اللينينية وهيمنة الاتحاد السوفييتي كقوة إمبراطورية فائقة القوة والنفوذ، وأنه مع انهيار الاتحاد السوفييتي وما صاحبه من سقوط مدوٍّ للعقيدة الماركسية، التقط مثقفون أوروبيون خيط نظريات التكامل وآثارها الإيجابية في مجالات الاستقرار والسلم والأمن الإقليمي والدولي. بفضل هذا الخيط، راحوا ينسجون نظاماً أوروبياً ينطلق من تجربة متواضعة بطلها مجموعة منتجي الحديد والصلب. كان الهدف إطلاق تجربة تكامل تشمل العدد الأكبر من دول أوروبا لتتعود على التعاون فيما بينها، ثم التكامل، وفي النهاية اعتناق فكرة «الأوروبيانية» لتحل تدريجياً محل الأفكار الوطنية «الضيقة» كالفكرة الإيطالية والفكرة الألمانية، وكلاهما كان سبباً وطرفاً في اشتعال حرب عالمية ضروس أنهكت أوروبا حتى صارت صيداً سهلاً للدولتين العظميين.
في بداية مشوارها، أثمرت الصحوة القومية في العالم العربي تحرير معظم الأقاليم العربية من الاستعمار الغربي المباشر، وأثمرت في بعض الدول المستقلة تجارب متفرقة نحو انطلاقة اقتصادية واجتماعية. إلا أنه بينما اختارت دول أوروبا لنهضتها إقامة نظام إقليمي تكاملي، اختارت الدول العربية المستقلة، وبعضها مستقل شكلاً وليس حقيقة، نظاماً إقليمياً يركز على دعائم انفصالية أو انعزالية في جوهرها، اختارت نظاماً يستبدل الدعوة إلى تكامل الدول الأعضاء بالدعوة إلى التنسيق بينها. حدث هذا بينما راح المعتدلون من القوميين العرب يدعون إلى نهضة تستند نظرياً أو مؤقتاً إلى أسس ودوافع قومية وليس بالضرورة عبر الاندماج. في النهاية تحقق ما كان يخشاه التيار القومي نتيجة إصرار الدول العربية على رفض التكامل وإمعانها ممارسة النزاع على الحدود وتغذية النزعات الانفصالية والاعتماد على الأجنبي، إذ تكرست داخل عدد متزايد من الدول العربية نزعات انفصالية، منها القبلي ومنها أيضاً العرقي والطائفي.
عدنا نشهد وبكثرة مريعة أحداث اغتيال وتمرد في عديد المواقع التي تسكنها أقليات من أي نوع. نشهدها بهذه الكثرة في معظم بلاد المشرق العربي، في لبنان، وفي جولان سوريا المحتل منذ فترة والمحتل منه للتو، وفي غرب سوريا، وفي شمال العراق وغربه.
في الوقت نفسه فوجئنا بدخول إسرائيل لاعباً غير معلن في النظام الإقليمي العربي. بدخولها وبالتشجيع الأمريكي الذي دفعها إليه عبر حرب سيناء الثانية وبخاصة قرب نهايتها.
مرة أخرى، يتأكد أن النظام الدولي في انحداره، حرم الدول العربية من الاستفادة من حال التوازن الدولي المألوف لها منذ زمن الحرب الباردة، وقبل أن يختل هذا الاختلال الفادح. روسيا منشغلة ومستنفدة بحربها مع أوكرانيا، والصين منشغلة بالتقدم على صعيد التكنولوجيا المتقدمة وسباق التسلح وبإقامة قواعد قطبية والاهتمام بتصعيد مناوراتها في المياه والأجواء التي تفصلها عن تايوان.
توقف العرب عن تعزيز عقيدتهم القومية فعلاً ثم قولاً. توقف، أو في الحقيقة، لم تستجب الحكومات العربية لنداءات المنطق والخبراء أن تقيم الأسس والخطط اللازمة للانطلاق
نحو مستقبل أفضل على صعيد التكامل الاقتصادي كما على صعيد التكامل الأمني. ندرك الآن مدى صعوبة الموقف الراهن وحجم تعقيداته على ضوء غياب المكونات الأربعة الضرورية لإقامة وتسيير نظام إقليمي قوي ومزدهر، أقصد غياب العقيدة وغياب خطط ونوايا التكامل الاقتصادي وغياب خطط ونوايا التكامل الأمني وأخيراً وليس آخراً غياب توازن فاعل للقوى الرائدة في النظام الإقليمي.
ومع ذلك، يظل الأمل كبيراً ومعقوداً على صحوة أو وقفة يستعيد بها النظام العربي حيوية أنقذته من أزمات بعضها كان في هول أزمته الراهنة، وربما أشد.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







