عادي
800 مليار دولار كلفة بناء جيوش القارة العجوز

عسكرة أوروبا.. عودة لما قبل الحروب العالمية

00:00 صباحا
قراءة 8 دقائق
ماكرون يحاول خلق بديل لأوكرانيا بعيداً عن ترامب

د. أيمن سمير

يقول المثل الألماني الشهير «إذا رأيت بندقية معلقة في خلفية الفصل الأول من المسرحية فتأكد أن هناك إطلاقاً للنار قبل إسدال الستار»

ومن يدقق في المسرح الأمني والعسكري الأوروبي سوف يشاهد الكثير من البنادق والعسكرة التي تنذر بعودة أوروبا مرة أخرى الى أزمنة الحروب والتطاحن التي قادت إلى حربين عالميتين راح ضحيتهما ما يربو على 100 مليون من البشر، وعند النظر لهذه القضية نجد هناك تيارين في أوروبا، الأول يقول إن توجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وتقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتخلي واشنطن عن دعمها العسكري المطلق لأوكرانيا وأوروبا لم يترك للأوربيين خياراً سوى البحث في كل الوسائل التي تضمن موقعاً قوياً لأوكرانيا على مائدة التفاوض مع روسيا، وأن يتمتع الأوربيون «باستقلالية أمنية ودفاعية» بعد عقود من الاعتماد الكامل على الجيش الأمريكي، ويعمل هؤلاء، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستامر، ورئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون ديرلاين، على تخصيص 800 مليار دولار لبناء الجيوش الأوروبية، وملء مخازن السلاح والذخيرة التي جرى تجريفها دعماً للمجهود الحربي الأوكراني. ويعمل هذا التيار على سن القوانين والتشريعات التي تسمح برفع سقف الدين العام لدول الاتحاد الأوربي بما يسمح بتوفير مليارات الدولارات لشراء السلاح والذخيرة وبناء مصانع الدبابات والطائرات العسكرية المسيرة.

لكن على الجانب الثاني وفي مقدمتهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني فيعتقدون أن «عسكرة أوروبا» ليست هي الحل للمشاكل الأمنية التي تعانيها أوروبا، وأن الأفضل للأوربيين هو بناء «نظام عالمي للأمن» يحفظ أمن الولايات المتحدة وأوربا وروسيا والصين وباقي دول العالم دون الانزلاق للحروب والنزاعات وعسكرة الاقتصاد والحياة، ويركن هؤلاء الى مجموعة من الحقائق تنفي مخاوف الأوروبيين من اجتياح روسي محدق لدول حلف«الناتو» في شرق أوربا وصولاً الى ألمانيا وفرنسا التي بدأت بالفعل نشر طائرات تحمل قاذفات نووية قرب حدودها مع ألمانيا خوفاً من الغزو الروسي وفق حسابات باريس، ويعتقد الطرف الرافض «لعسكرة أوربا» أنه تم استنزاف روسيا خلال سنوات الحرب مع أوكرانيا، ولا يمكن للكرملين أن يفكر في غزو جديد لأي دولة في حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» خاصة أن روسيا أنفقت العام الماضي نحو 140 مليار دولار على التسليح بينما ينفق حلف «الناتو» سنوياً نحو 1.4 تريليون دولار على الشؤون الدفاعية، وهو ما يعني أن «الناتو» ينفق نحو 10 أضعاف ما تنفقه روسيا على التسليح، وهو وما يجعل تفكير موسكو في غزو دولة أوروبية في حلف «الناتو» بمثابة «انتحار كامل»، والأفضل من وجهة نظر هذا التيار أن تحافظ أوروبا على نموذجها في السلام والاستقرار وتعزيز الإنفاق الاجتماعي، وليس ضخ الأموال في المجمع الصناعي العسكري الأوروبي ودعم أوكرانيا بالسلاح حتى تستمر سنوات أخرى في القتال، لأن استمرار التسلح سوف يكون على حساب التماسك الاجتماعي خصوصاً بعد أن نجحت أوروبا في لفظ الفاشية والنازية، وقدمت نموذجاً في إدارة الخلافات بعيداً عن العسكرة طوال أكثر من 8 عقود، ويخشى هذا التيار أن يكون التوجه نحو العسكرة هو مقدمة للتآكل من الداخل، وفقدان البوصلة والتحلل الذاتي، فما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا التوجه الجديد للقارة الأوروبية، وكيف هي أشكال «العسكرة» التي تكتسي بها أوروبا في الوقت الراهن؟ وهل من نموذج مبدع يخرج أوروبا من هذه الثنائية الحادة ما بين الاعتماد الكامل على واشنطن أو العودة لدوامات الحروب الأوروبية التي سادت طوال 4 قرون وانتهت بالحرب العالمية الثانية؟

مؤشرات العسكرة

منذ عودة الرئيس ترامب للبيت الأبيض وتجميد المساعدات الأمريكية لأوكرانيا بدأت أوروبا سلسلة من الخطوات نحو «عسكرة الاقتصاد»، وتخصيص الأموال، ووضع الشروط للشركات التي يمكن أن تعمل في بناء المنظومات والمصانع العسكرية، وأبرز هذه الخطوات هي:

أولاً: الخطة الخماسية

وهي خطة أعلنتها أورسولا فون ديرلاين رئيسة المفوضية الأوربية في 4 مارس 2025 بعنوان «إعادة تسليح أوروبا» بكلفة 800 مليار يورو، ورغم إقرار القادة الأوربيين بأن خطر روسيا على الدول الأوربية الأعضاء في حلف «الناتو» ليس محدقاً إلا أنهم قالوا إن السماح بانتصار روسيا، وتحقيق أهدافها سواء في الميدان أو عبر المفاوضات سوف يشجع روسيا في غضون 3 الى 5 سنوات للاعتداء على الدول الأوروبية الأخرى، وتضم هذه الخطة 5 مسارات رئيسية هي:

1-تعزيز وتسهيل الإنفاق الوطني من دول الاتحاد السبع والعشرين عن طريق السماح لكل دولة بتجاوز العجز في الميزانية نسبة 3%، وهي النسبة الحالية التي لا يمكن لأي دولة تجاوزها، لكن بعد إقرار هذه الخطة في البرلمان الأوروبي تستطيع الدول الأوربية شراء سلاح وذخيرة حتى لو أدى ذلك لارتفاع العجز لأكثر من 3%، وهي النسبة التي كان يشترطها «ميثاق الاستقرار والنمو» للاتحاد الأوروبي، وبموجب هذا التعديل تستطيع الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إنفاق نحو 650 مليار يورو خلال السنوات الأربع القادمة، وفي السابق كانت الدولة التي يتجاوز عجز الميزانية فيها 3% يقوم الاتحاد الأوربي فوراً بتفعيل ما يسمى «إجراءات العجز المفرط»، لكن من أجل توفير مزيد من الأموال لإنتاج وشراء السلاح سوف يتم التغاضي تماماً عن هذه الإجراءات حال تجاوز عجز الميزانية 3% في أي دولة من دول الاتحاد.

2-تقديم مساعدات ومنح وقروض دفاعية بمبلغ 150 مليار دولار أخرى للدول السبع والعشرين بشرط أن تستثمر في تصنيع ما يتعلق بالقدرات الدفاعية الأوربية.

3-«صناديق التماسك»، تسمح هذه الخطة لأول مرة لدول الاتحاد الأوربي باستخدام أموال «صناديق التماسك» في الشؤون الدفاعية وشراء السلاح والذخيرة، وهي أموال كان يحرم في السابق استخدامها خارج الهدف الرئيسي لها وهو تحقيق التماسك والاندماج بين دول الاتحاد الأوربي.

4-تشجيع «البنك الأوربي للاستثمار» لتمويل مشاريع الدفاع.

5-دفع «القطاع الخاص» للاستثمار في المصانع العسكرية ومصانع الذخيرة وبحوث السلاح.

ثانياً: الكتاب الأبيض

وهو عنوان «للاستراتيجية الدفاعية الموحدة» التي تتكون من 20 صفحة، وقدمتها المفوضية الأوربية بهدف تنسيق جهود الدفاع بين دول الاتحاد، وتعزيز قدراتهم التسليحية لمواجهة أي تهديدات مستقبلية، وتسهيل آلية اتخاذ القرار في الجانب الدفاعي. وتنص الاستراتيجية على أن إعادة بناء الدفاع الأوروبي تتطلب استثماراً كبيراً ومستداماً على مدى فترة زمنية طويلة، وإنتاج الأسلحة داخل الاتحاد وشركات الدول الثالثة ذات التوجهات المتشابهة، وتشجيع عمليات الشراء المشتركة للأسلحة، والتركيز على المجالات الرئيسية التي يعاني فيها الاتحاد نقصاً في القدرات، مثل الدفاع الجوي والقدرة على التنقل العسكري، وتقليص البيروقراطية في استثمارات الدفاع، وبموجب «الكتاب الأبيض» فإن إعادة بناء المجمع الصناعي العسكري للاتحاد الأوروبي، تتطلب النظر في اعتماد الأفضلية الأوروبية عند تنفيذ المشتريات العامة في القطاعات والتقنيات الاستراتيجية المرتبطة بالدفاع.

وتحتل أوكرانيا مكاناً بارزاً في هذه الاستراتيجية حيث يدعو الكتاب الأبيض الى توفير 1.5 مليون قذيفة مدفعية، وأنظمة دفاع جوي لكييف، ومواصلة تدريب القوات الأوكرانية، وتقديم طلبات من صناعة الدفاع الأوكرانية، وربط أوكرانيا بشكل أوثق بخطط التمويل العسكري للاتحاد الأوروبي، وتوسيع ممرات التنقل العسكري للاتحاد لتشمل أوكرانيا.

ثالثاً: إنتاج الذخائر

كشفت السنوات الثلاثة الماضية عودة نمط الحروب العالمية الأولى والثانية في أدوات وأهداف الحرب الروسية الأوكرانية، ورغم كل ما تتميز به الحرب الروسية الأوكرانية من تطبيق عملي لأحدث أساليب الحرب الحديثة إلا أنها كشفت أيضاً أنها ما تزال تعتمد بشكل كبير على الدبابات والمدرعات، وهذا يتطلب استخداماً مكثفاً للذخائر حيث تستهلك أوكرانيا في الشهر الواحد نحو 250 ألف قذيفة مدفعية من العيار الثقيل 155 مم، ولهذا يضع الاتحاد الأوروبي هذا الأمر ضمن رؤيته لإنتاج الملايين من الذخائر خاصة أن الكثير من دول الاتحاد اضطرت الى تجريف مخازنها من أجل ضمان إرسال الذخيرة لأوكرانيا خلال السنوات الثلاثة الماضية، وسوف تزداد الحاجة الأوروبية للكثير من الصواريخ خصوصاً مع احتمالية توقف إرسال واشنطن للصواريخ التي لعبت دوراً كبيراً في الحرب الروسية الأوكرانية ومنها صواريخ ستينجر وجافلين، وراجمات الصواريخ وهايمارس، وحالياً تقوم المصانع الأوروبية بتسليم طلبيات السلاح والذخيرة في عضون عام كامل، لهذا يسعى الأوربيون من خلال المزيد من الإنفاق وتأمين سلاسل الإمداد في تسريع وتيرة تصنيع وتسليم الأسلحة والذخيرة داخل الاتحاد الأوروبي.

رابعاً: الدفاع المتقدم

تسيطر الآن على النخبة الأوروبية فوبيا تمدد الحرب مع روسيا الى خارج أوكرانيا، ولهذا تقوم المواقف الداعمة لإرسال مزيد من السلاح والذخيرة لأوكرانيا على أن أوكرانيا من وجهة نظر هؤلاء هي «خط دفاع متقدم» عن باريس وبرلين وبروكسل حال فوز روسيا في أوكرانيا، ولهذا يعمل الأوربيون على إرسال السلاح لأوكرانيا حتى لا تضطر جيوشهم للمواجهة المباشرة مع الجيش الروسي، ولا يثق الأوربيون كثيراً في النفي الروسي الدائم بعدم وجود أي أطماع روسية في الأراضي الأوروبية، كما لا يقتنعون بالآراء التي تقول إن روسيا لم تتجاوز شرق وجنوب أوكرانيا على مدار 3 سنوات، فكيف لها أن تجتاح بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث لتصل الى ألمانيا وفرنسا.

 

خامساً: القيادة وسد الثغرات

خلال العقود الماضية كان كل شيء في الدفاع الأوروبي يعتمد على الولايات المتحدة التي تنفق نحو 70% من الشؤون الدفاعية «للناتو»، لكن الدول الأوربية عازمة على سد الثغرات وإصلاح كل العيوب في نظام «الأمن الجماعي الأوروبي» عبر تدشين خطوط إمداد مشتركة، وتوزيع المصانع العسكرية الجديدة على أكبر عدد من الدول حيث تتركز المنشآت العسكرية الكبرى في الوقت الحالي في عدد قليل من دول الاتحاد، مع العمل على اكتشاف المزايا النسبية التي تتمتع بها كل دولة في تصنيع السلاح سواء من حيث توافر الأيدي العاملة الماهرة أو وجود مصادر الطاقة ومكونات الذخيرة والسلاح.

1

سادساً: زمن «الخندق الواحد»

قبل عودة الرئيس ترامب الى البيت الأبيض كانت الحسابات الأوروبية تقوم على أن الولايات المتحدة وأوروبا في «خندق واحد» للدفاع عن القيم والمصالح المشتركة، لكن مع السياسات الأمريكية الجديدة بات على أوربا أن تحمي نفسها بنفسها، وتكشف المفاوضات التي جرت في لندن وبروكسل وباريس خلال شهر مارس الماضي أن الدول الأوربية تتعامل مع الأمر وكأن الولايات المتحدة انسحبت بالفعل من «الناتو»، ويدفع المدافعون عن «عسكرة أوروبا» الى أن أوروبا لن تخسر شيئاً من إعادة بناء قدراتها العسكرية، ففي حين تسمح القدرات العسكرية الجديدة لأوروبا للدفاع عن نفسها بعيداً عن الولايات المتحدة، فإن بقاء الدول الأوربية في حلف «الناتو» وعدم انسحاب الرئيس ترامب من الحلف الأطلسي سوف يعزز دور الدول الأوروبية داخل الناتو.

سابعاً: ورقة مناورة

ينظر القادة الأوربيون لاستعادة القدرات الدفاعية والعسكرية لأوربا بأنه سوف يمنح الدول الأوربية «مساحة للمناورة» في التفاوض مع الرئيس الأمريكي بعد أن طلب الرئيس ترامب من الدول الأوروبية إنفاق نحو 5% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية، لكن المناقشات بعد ذلك كشفت أن واشنطن طلبت من كندا والدول الأوروبية زيادة مخزوناتها من الأسلحة والذخيرة بنحو 30% خلال السنوات الخمس القادمة، وهو ما يحتاج لنسبة إنفاق تزيد بكثير على 5% من الناتج القومي الأوروبي، وهدف واشنطن من تلك المطالب هو التمهيد «لوقف الاعتمادية الأوروبية» على واشنطن في قضايا الدفاع، ومن شأن نجاح خطط التسليح الأوروبي أن يحسن موقفها في التفاوض مع الرئيس ترامب.

ثامناً: التجنيد الإجباري

أصاب حديث وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث في مؤتمر ميونخ الأوربيين بالهلع عندما قال إنه لا يفترض أن يتخيل أحد أن الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا سوف يستمر للأبد، هنا بات على الأوربيين الاعتماد على أنفسهم كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسبب الهلع الأوروبي أن حديث وزير الدفاع الأمريكي يعد تغيراً كاملاً في العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة التي نقلت نحو 300 ألف جندي الى أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وزاد هذا العدد في بدية الخمسينيات من القرن الماضي لنحو 450 ألف جندي أثناء الحرب الباردة، لكن عندما تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في 25 ديسمبر 1995 تراجع عدد القوات الأمريكية في أوروبا الغربية لنحو 64 ألف جندي فقط عام 2020، وزاد هذا العدد الى 80 ألف جندي في يناير 2020، لكن اليوم مع زيادة التوتر في أوروبا منذ الحرب الروسية الأوكرانية بات لواشنطن نحو 100 ألف جندي ينتشرون في 37 قاعدة عسكرية كبيرة، ويخشى الأوربيون سحب نحو 100 ألف جندي أمريكي ينتشرون في نحو 37 قاعدة عسكرية العدد الأكبر من هؤلاء الجنود في ألمانيا التي بها نحو 40 ألف جندي أمريكي، تليها إيطاليا بنحو 12 ألف جندي، ونحو 10 آلاف جندي في كل من بريطانيا وبولندا، ويقل العدد في باقي الدول الأوروبية وصولاً الى نحو 2500 جندي في إسبانيا، ومئات الجنود في كل من كوسوفو وقبرص، وفي مقابل ضخامة هذا التحدي بدأت الكثير من الدول تعود الى التجنيد الإجباري ليس فقط للذكور بل للإناث أيضاً لتعويض أي سحب للجنود الأمريكيين من أوروبا.

[email protected]

 

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"