في أحد المجالس، جلس بجانبي رجل تقاعد مؤخراً.. تحدثنا قليلاً وسألته بعدها كيف هي أحواله في هذه الأيام وماذا يفعل. رد علي بعد أن سكت لثوانٍ فقال: كنت سابقاً أُستشار في كثير من القرارات، ويُذكر اسمي في جميع الاجتماعات، وأتلقى الاتصالات من كل الجهات. ولكن اليوم وبعد التقاعد، تغير كل شيء، لم تعد تردني تلك الاتصالات ولا أي مكالمات حتى من أقرب زملائي ولا كأني كنت موجوداً بينهم في يوم من الأيام، شعرت بأنني لم أعد مرئياً، كأنني كنت موجوداً بسبب الوظيفة فقط.
تأملت كلماته طويلاً، لم تكن مجرد شكوى، بل مرآة تعكس أزمة نفسية يمرّ بها كثير من الناس بعد التقاعد، حين تتوقف الهواتف عن الرنين، وتخفت الأضواء من حولك، وتختفي الدعوات والاجتماعات، يبدأ سؤال مؤلم بالتسلل إلى النفس، هل كان كل هذا من أجلي أنا، أم من أجل الكرسي الذي كنت أجلس عليه؟
الوظيفة قد تمنحك مكانة اجتماعية، واحتراماً ظاهرياً، لكنها لا تُشكّل ذاتك الحقيقية، والمؤلم أن البعض يكتشف متأخراً أنه بنى صورته الذاتية كلها على بطاقة العمل، لا على جوهره الإنساني، يتعامل الناس معه باعتباره «المدير» أو «المسؤول»، وحين تزول هذه الصفة، يزول معها الاهتمام والاحترام، وكأنه لم يكن موجوداً.
الحقيقة التي يجب أن نعيها مبكراً هي أن الوظيفة مرحلة مؤقتة، وليست جوهراً دائماً، هي وسيلة للعطاء وخدمة الناس، لكنها يجب ألا تبتلعك بالكامل، لا تجعلها الوعاء الوحيد الذي يحتوي كيانك وشخصيتك، الإنسان الحقيقي لا يُختزل في مسمى وظيفي، ولا يُقاس بالختم الرسمي على الورق، ولا يتلاشى بانتهاء عقد العمل أو مغادرة المكتب.
قيمة الإنسان في فكره، في أخلاقه، في مشاعره، في صدقه، في علاقاته الصادقة، في الأثر الطيب الذي يتركه في حياة الآخرين، كم من شخص كان يحيط به الكثيرون، ولما انتهى منصبه، تخلّى عنه الجميع؟ وكم من إنسان ظل محبوباً ومؤثراً، لأنه بنى حضوره على ذاته، لا على منصبه ولا على مكتبه؟
بعد التقاعد، يبدأ اختبار الذات الحقيقي، هل كنت تعيش لنفسك أم للدور الذي أُسند إليك فقط؟ هل لديك شغف حقيقي؟ اهتمامات؟ علاقات إنسانية خارج حدود العمل؟ أم أن حياتك كانت حبيسة المسمى والمهام والمسؤوليات فقط؟
الحياة لا تنتهي بانتهاء الوظيفة، بل تبدأ من جديد، بشكل مختلف، أكثر صدقاً وعمقاً وحرية، لكن هذا التحول يتطلب وعياً مبكراً واستعداداً نفسياً طويل الأمد، يبدأ قبل التقاعد بسنوات.
اسأل نفسك اليوم: من أنا بدون هذا اللقب؟ وهل يراني من حولي كإنسان، أم مجرد منصب؟ لا تنتظر التقاعد لتكتشف نفسك، الوظيفة تُحال للتقاعد... أما الإنسان الحقيقي، فلا يُحال أبداً.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







