الحسين الزاوي
شهدت الولايات المتحدة خلال الولاية الرئاسية الأولى للرئيس ترامب شكلاً من أشكال التوافق مع الخطوط الكبرى للعلاقات الدولية، التي جرى وضع لبناتها الأساسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب قلة خبرة ترامب -آنذاك- في التعامل مع التوجهات الكبرى للدولة العميقة في واشنطن، الأمر الذي اضطره إلى الإذعان لإرادتها في الكثير من الملفات. واستطاع قبل فوزه بولايته الثانية أن يشكّل فريقاً منسجماً يعمل بجدية على التحكّم بمفاصل السلطتين التشريعية والقضائية، وذلك فضلاً عن السلطة التنفيذية التي يقودها بشكل مباشر، ونجح حتى الآن في فرض وقائع جديدة وغير مسبوقة على الساحتين الداخلية والخارجية، وكأنه يضع بذلك لبنات عصر جديد في تاريخ الولايات المتحدة وفي أسس المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية، وأضحت هذه القفزات البهلوانية الترامبية سمة ملازمة لعصرنا الراهن.
إن العالم يواجه في هذا «العصر الترامبي» كل أشكال التناقضات الصارخة من محاولة فرض السلام على الأوكرانيين والروس إلى تهديد الفلسطينيين في غزة باستخدام أقصى درجات القوة، وإطلاق يد إسرائيل من أجل إبادة المدنيين وتصفية القضية الفلسطينية والاعتداء على جيرانها في لبنان وسوريا وابتزاز مصر، علاوة على التلويح بمهاجمة إيران وتعبيد الطريق أمام تل أبيب لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق الشروط التي تخدم أجندتها التوسعية.
ومن الواضح أن السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة تقوم وفق التوصيف الذي يقدمه المراقبون على عنصري التهديد والابتزاز، لدفع الخصوم إلى المواقفة على تسويات تستجيب لشروطها المجحفة، لذلك فإن ترامب يدخل في مواجهات مع الجميع في سياق حروب متعددة الأوجه: سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية، تعتمد على الخيارات القصوى المتطرفة، تهدف إلى الوصول بالأوضاع إلى حافة الهاوية بل وإلى الذروة التي لا تترك للخصوم والأصدقاء خياراً ثالثاً خارج خياري الإذعان أو الدخول في مواجهة مع دولة تهيمن على أهم عناصر القوة الغاشمة.
ونستطيع أن نزعم في هذا السياق، أن استمرار الاعتماد على خيارات التصعيد و«حروب الذروة» في الشرق الأوسط، سيؤدي إلى سفك مزيد من الدماء في المنطقة العربية، لأن إدارة ترامب وعلى خلاف الإدارة الأمريكية السابقة ليست لها أي رغبة في الضغط على سلطات الاحتلال في إسرائيل، وتتبنّى خيارات كانت حكومة نتنياهو تتردّد سابقاً في الإفصاح عنها علناً، وباتت قوات الاحتلال تقصف المدنيين جهاراً نهاراً دون مساحيق ودون البحث عن ذرائع واهية لتبرير سلوكياتها الإجرامية. ولم تعد تل أبيب تخفي الآن نواياها التوسعية في لبنان وسوريا، وتعلن بكل صفاقة بأنها لن تنسحب من الأراضي العربية التي احتلتها مؤخراً.
وتمتد «حروب الذروة» التي أشعل فتيلها الرئيس ترامب إلى المجال التجاري من خلال إعلانه عن فرض رسوم جمركية على كل دول العالم في سياق مواجهة تجارية شاملة لاسيما مع دول مؤثرة تعتمد اقتصاداتها على حجم مبادلات معتبر مع واشنطن مثل الصين التي ردت بقوة على القرارات الأمريكية، وهي تملك في هذا السياق أوراق ضغط استراتيجية، حيث تستحوذ الصين على النصيب الأكبر من المعادن النادرة التي تدخل في صناعة المنتجات التكنولوجية، ومن المتوقع أن تزداد المنافسة التكنولوجية بين واشنطن وبكين اشتعالاً لاسيما في مجال الذكاء الاصطناعي وفي إنتاج أشباه الموصلات، حيث تمكنت الصين مؤخراً من توجيه ضربة قوية لشركات التقنية الأمريكية بعد إطلاقها لتطبيق «ديب سيك».
وتعمل الدول الأوروبية في السياق نفسه على التحضير لردود قوية على قرارات ترامب في المجال التجاري، من خلال تأكيدها على أن تصريحات ترامب غير دقيقة، وأن الرسوم التي تطبقها دول الاتحاد على السلع الأمريكية لا تتجاوز خمسة في المئة وأن استهدافه لقطاع صناعة السيارات الأوروبية لن يمرّ مرور الكرام، وبالتالي فإن الرئيس الفرنسي ورئيسة المفوضية الأوروبية عبّرا في تصريحاتهما عن عزمهما على الرد بحزم على القرارات الأمريكية وسيتم التركيز على قطاع الخدمات الرقمية والمالية الأمريكية من أجل دفع واشنطن إلى تغيير موقفها لاسيما وأنها تعتمد في انتشارها العالمي على شركات التقنية الكبرى وتمتلك هذه الأخيرة - بدورها - تأثيراً لا يستهان به على صنّاع القرار في البيت الأبيض.
ويمكن القول إنه في هذا الزمن الذي تمارس فيه السياسة الدولية وتسيّر فيه شؤون الدول عبر «منصات الدردشة»، وفي عصر الحماقات، تُستباح دماء الفلسطينيين أمام أنظار العالم وتُنتَهكُ سيادة دول عربية كاملة العضوية في الأمم المتحدة، ويُعلن رئيس أكبر دولة في العالم رغبته في ضم كندا وغرينلاند إلى أراضي بلاده، ويعتدي على قوانين التجارة الدولية ويتعامل مع الدول بمنطق التهديد والوعيد وكأنه سيِّد يوبّخ أتباعه، نكون قد وصلنا فعلاً بهذه الحروب المتعددة الأوجه إلى ذروتها مع ما يعنيه ذلك من انقلاب حتمي في الوضعيات، لأن الرسم البياني الذي يصل إلى الذروة لا يكون أمامه سوى الانتقال نحو منحنى التراجع، كما حدث مع الامبراطوريات التي أفرطت في استعمال قوتها لممارسة العدوان على الشعوب الأخرى.