د. أيمن سمير
يقول الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو «تحدث حتى أراك»، لذلك دعا الرئيس ترامب نظيره الصيني شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه في يناير الماضي في تقليد هو الأول من نوعه في التاريخ الأمريكي، فالحديث المباشر بين الزعماء والقادة كان دائماً السبيل الوحيد للتغلب على «القناعات الخاطئة، والأفكار جاهزة التعليب»، وهذا بالضبط ما تحتاج إليه القيادة في الولايات المتحدة والصين لإدارة المنافسة التجارية والجيوسياسية بين أكبر اقتصادين في العالم في ظل فرض رسوم جمركية متبادلة بين واشنطن وبكين.
وخلال نحو 3 أشهر من عودة الرئيس الأمريكي للبيت الأبيض زادت القناعات السلبية عند كل طرف، حيث تنظر الولايات المتحدة للصين باعتبارها الدولة الوحيدة التي تسعى وتملك المقومات لتقويض الهيمنة الأمريكية على العالم، وأنها تتحدى واشنطن اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، بينما تنظر الصين للسياسات الأمريكية باعتبارها تهدف للحد من الصعود السياسي والاقتصادي والعسكري للصين عبر فرض الرسوم الجمركية، والنفخ في حركات التمرد الداخلية، والتشجيع على انفصال الأقاليم الصينية مثل تايوان وشينجيانج والتبت، وخلق الأزمات بين الصين وجيرانها الآسيويين، خصوصاً في بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، والعمل على تعميق الخلافات الصينية مع اليابان والهند وكوريا الجنوبية وأستراليا وفيتنام والفلبين.

الملفات المطروحة على القمة الأمريكية الصينية
رغم أن الصين لم تطلب بدء حوار مباشر حول الرسوم الجمركية المتبادلة على غرار نحو 60 دولة طلبت الحوار مع البيت الأبيض، إلا أن البلدين يتحدثان عن عقد قمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ خلال الشهرين القادمين لنزع فتيل حرب تجارية تلوح في الأفق يمكن أن تقوض سعي البلدين لتحقيق معدلات نمو عالية، والتغلب على مشكلات بنيوية في الاقتصاد العالمي، وسوف تؤسس أي قمة بين الزعيمين لمرحلة جديدة، ليس فقط من أجل نزع فتيل الانزلاق نحو صراع مسلح بين البلدين، بل لتدشين أسس نظام عالمي جديد يراعي مصالح الجميع وفق أدوات وأهداف واضحة تحافظ على السلام والاستقرار العالمي، فكيف يمكن أن تشكل القمة الأمريكية الصينية القادمة بداية النهاية للحروب الباردة والساخنة؟ وما هي الملفات التي تعزز شهية البلدين للذهاب نحو التوافق وليس التناحر والصراع؟ وهل حسابات ترامب الجديدة يمكن أن تقود لاتفاق تاريخي بين البلدين يؤسس لمرحلة جديدة بين واشنطن وبكين على غرار القرار التاريخي للرئيس جيمي كارتر عام 1979 الذي اعترف فيه بالصين وفتح الباب لمرحلة تاريخية بين البلدين؟
محفزات النجاح
هناك سلسلة طويلة من الخطوات تؤشر إلى أن القمة القادمة بين الرئيسين الأمريكي والصيني سوف تكون ناجحة، لأن سياسة ترامب تركز في المقام الأول على الملفات الاقتصادية والتكنولوجية، وتتبع منهج «الواقعية السياسية» وتقدم المصالح الأمريكية على ما يسمى «بالقيم والأيدلوجية» الغربية، ناهيك عن أن ترامب يتبع منهجاً وسياسة مختلفة عن سلفه جو بايدن في ملفات رئيسية مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام وأستراليا ونيوزيلندا والهند، وهي مقاربات أقرب للرؤية الصينية، بما يمنح فرصة لبكين لتمرير أي تنازلات تتعلق بالخلافات التجارية مع واشنطن
ولهذا، ورغم الصراخ المصاحب لفرض رسوم جمركية متبادلة بين البلدين، إلا أن كل المؤشرات تقول إن الصين والولايات المتحدة قادرتان على إدارة المنافسة بينهما، وأن القمة القادمة سوف تكون «فرصة ذهبية» لبناء مسار مشترك يجنب الاقتصاد العالمي التباطؤ والركود، والعمل معاً من أجل تعزيز السلام والاستقرار العالمي، وهو ما تجلى في إرسال الصين لوفود «غير رسمية» إلى واشنطن لاكتشاف المساحات التي يمكن العمل عليها في القمة القادمة، كما أرسلت واشنطن السيناتور الجمهوري ستيف داينز المقرب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتمهيد للزيارة عبر اللقاء مع رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، والتمهيد لعقد صفقات تاريخية يجري الحديث بشأنها بين البلدين، ويشكل عقد هذه القمة فرصة لمنع التصعيد التجاري، والتوقف عن فرض إجراءات مضادة ضد كل طرف، لأن غياب الثقة وقلة اللقاءات المباشرة خلال السنوات الماضية هي التي ساهمت في تراكم الخلافات الأمريكية الصينية، ولهذا فإن نجاح القمة القادمة يحتاج إلى التوافق على 10 ملفات رئيسية وهي:

أولاً: الإقرار بالحقائق
أولى الحقائق التي تحتاج واشنطن وبكين الإقرار بها أنه من المستحيل «الفصل الكامل» بين اقتصاد البلدين، وأن «الاعتمادية المتبادلة» هي ما يجب الاعتراف به، فلا يمكن للمصانع الأمريكية أن تعمل دون سلاسل الإمداد الصينية، وخير شاهد على هذا الارتباط الوثيق بين اقتصاد البلدين هو تراجع ترامب عن فرض حواجز جمركية على نحو 101 مليار دولار من الواردات الصينية إلى الأسواق الأمريكية، لأن هذه الواردات تحتاج إليها بشدة المصانع الأمريكية، وزيادة الرسوم الجمركية عليها يعني رفع كلفة السلع الأمريكية، وهو ما يجهض خطط ترامب في تعزيز تنافسية البضائع الأمريكية.على الجانب الآخر ينبغي على الصين أيضاً أن تدرك أن علاقتها بالولايات المتحدة وبحلفائها الغربيين والآسيويين تدر عليها أكثر من تريليوني دولار سنوياً منها نحو 700 مليار دولار حجم التجارة مع الولايات المتحدة، و950 مليار دولار مع دول الاتحاد الأوروبي، ونحو 400 مليار مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وأن الانفتاح الأمريكي على الصين بداية من زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون لبكين كان البداية الحقيقية للانفتاح الصيني على العالم، هذه الواقعية في النظر للعلاقات الأمريكية الصينية يمكن أن تخلق فرصاً غير مسبوقة للتعاون بين البلدين في المرحلة القادمة.ثانياً: القضايا التجارية
سبق للرئيس ترامب في ولايته الأولى أن نجح مع نظيره الصيني في التوصل لاتفاق تجاري بعد فترة وجيزه من فرض الرسوم الجمركية الذي أطلق عليه «الاتفاق التجاري المبدئي» في يناير 2020 بقيمة 250 مليار دولار، ويمكن أن يشكل هذا الاتفاق نموذجاً لإنهاء الرسوم التجارية الحالية بين الولايات المتحدة والصين، ويؤكد هذا الاتفاق الذي لم ينفذ بسبب تفشي ظاهرة كورنا قبل 5 أعوام أن واشنطن وبكين قادرتان على وضع الحلول مهما كانت صعوبة الخلافات التجارية.
ثالثاً: تايوان
تعاملت إدارة ترامب بذكاء مع تقارير نشرتها الصحافة الأمريكية في شهر مارس الماضي قالت فيها إن الولايات المتحدة تستعد للحرب مع الصين عام 2027 في ظل إدراك البيت الأبيض، أن الصين تستعد لغزو تايوان على غرار سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، ونفى البيت الأبيض هذه التقارير تماماً، لكن هذا يؤكد أن ملف تايوان يمكن أن يفخخ العلاقات الأمريكية الصينية في أي وقت، ولهذا سيكون على الولايات المتحدة إعادة تأكيد التزامها الكامل«بوحدة وسلامة الأراضي الصينية»، وأن تايوان جزء رئيسي من جمهورية الصين الشعبية في مقابل التزام الصين بالعمل على عودة تايوان الطوعية وبالطرق الدبلوماسية إلى الأمة الصينية، والتخفيف من حجم وعدد المناورات العسكرية الصينية حول جزيرة تايوان، وما يساعد على التوصل لاتفاق مشترك حول هذه القضية، أن الجمهوريين ليسوا على استعداد للإعلان عن تدخل واشنطن عسكرياً لحماية تايوان كما تعهد بذلك الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في مايو وسبتمبر 2022، وكل ذلك قد يمهد لتحسين العلاقات بين الصين والولايات المتحدة.رابعاً:وقف الحرب في أوكرانيا

كانت المقاربة الأمريكية في عهد الديمقراطيين تقوم على أن الصين هي داعم رئيسي لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وفرضت واشنطن في عهد جو بايدن سلسلة من العقوبات على الشركات الصينية، بدعوى أنها تقدم تكنولوجيا لموسكو تستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا، لكن رؤية الرئيس ترامب لهذه القضية أكثر إيجابية، فهو ينظر للقيادة الصينية باعتبار أنها يمكن أن تلعب دوراً محفزاً لموسكو لوقف الحرب في أوكرانيا، ولهذا يمكن أن يراهن ترامب على علاقته الشخصية القوية بالرئيس شي، لإحراز تقدم لوقف الحرب في أوكرانيا، وهو أمر قد يعزز الثقة بين القيادتين الصينية والأمريكية.
خامساً: الاتفاقيات الاستراتيجية
هناك هدف للرئيس ترامب منذ ولايته الأولى وهو جذب الصين للانخراط في الاتفاقيات الدولية لنزع السلاح، وخاصة الأسلحة النووية، وعندما انسحب ترامب في أغسطس 2019 من اتفاقية «منع نشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية» كان يهدف لتحويل هذه الاتفاقية من اتفاقية «ثنائية» بين روسيا والولايات المتحدة إلى اتفاقية «متعددة الأطراف»، نفس الأمر يتعلق بالانسحاب الأمريكي من اتفاقيات مثل «نيوستار» حول الأسلحة النووية، واتفاقيات «السماوات المفتوحة» التي تسمح بالرقابة الجوية على تسليح كل طرف للطرف الآخر، وسوف يكون لمثل هذه الاتفاقيات تأثير كبير في الاستقرار العالمي خصوصاً في ظل الاتهامات الأمريكية السابقة للصين بأنها زادت من رؤوسها النووية بنسبة 25% لتصبح نحو 500 رأس نووي، وأن مخزون بكين سيصل إلى 1500 رأس نووي بحلول 2035
سادساً: حلقة النار
أكثر الأسباب التي كانت وراء التوتر الصيني الأمريكي خلال العقدين الماضين هو توجه الولايات المتحدة نحو سياسة «الاستدارة شرقاً» التي تركز على مواجهة الصين في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأصبحت الصين هي الهدف الرئيسي منذ إعلان واشنطن استراتيجية الأمن القومي في ديسمبر 2017، والتي اعتبرت الصين مع روسيا المنافستين الاستراتيجيتين للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وخلال هذه السنوات كثفت واشنطن من إرسال السلاح والذخيرة للدول المحيطة بالأراضي الصينية، وهي السياسة التي أطلق عليها «حلقة النار» حيث ظلت واشنطن ترسل السلاح، وتوسع من قواعدها العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام والفلبين وأستراليا، وعملت واشنطن كذلك على تعزيز البيئة المعادية للصين في الدوائر الآسيوية المحيطة والقريبة من الأراضي الصينية، لكن مع تركيز ترامب على القضايا التجارية، وفرض رسوم جمركية على كل الدول المجاورة للصين، فإن هذا التوجه الجديد لترامب يمكن أن يعطي للدبلوماسية نافذه جديدة لإصلاح العلاقات الأمريكية الصينية.
سابعاً: تراجع التحالفات الآسيوية
تأمل الصين أن يكون للرئيس ترامب موقفاً تجاه التحالفات العسكرية الآسيوية على غرار موقفه الصارم من حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، لأن بكين في الوقت الحالي تنتظر إضعاف تحالفات مثل «أوكوس» الذي يضم مع الولايات المتحدة كلا من أستراليا وبريطانيا، وتأسس في 15 سبتمبر 2021 بهدف مواجهة الصين عسكرياً في منطقة الإندو- باسيفيك، وكذلك تحالف «كواد الرباعي» الذي يضم مع الولايات المتحدة اليابان والهند وأستراليا، وكذلك تحالف «العيون الخمس» الاستخباراتي الذي يضم كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا مع الولايات المتحدة
ثامناً: المصالح وليس القيم
تأكيد إدارة ترامب على أن هدفها الرئيسي هو «جعل أمريكا عظيمة من جديد» يتوافق في جانب منه مع المصالح الصينية التي كانت ترى خطراً شديداً في سياسات الديمقراطيين التي تقوم على «القيم» والتدخل في شؤون الدول الأخرى لدعم الديمقراطية، ولهذا تتوقع القيادة الصينية من ترامب ألا يتدخل في القضايا الداخلية الصينية مثل ملفات حقوق الإنسان والتبت وشينجيانج وهونغ كونغ.

واشنطن
تاسعاً: كوريا الشمالية
تمثل عودة ترامب للبيت الأبيض فرصة كبيرة للصين لحل الخلاف الأمريكي الكوري الشمالي، حيث يعد ترامب الوحيد القادر على الاجتماع مجدداً مع الزعيم الكوري الشمالي، وحل هذه الملف الذي يشكل صداعاً سياسياً وأمنياً لكل دول شرق آسيا، وحال تقديم ترامب مقاربة جديدة حول ملف كوريا الشمالية فإن الصين يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في حل هذه القضية الشائكة بما يعزز المصالح الأمريكية الصينية المشتركة.
عاشراً: عسكرة الفضاء
تشكل سلامة الفضاء مصلحة مشتركة لكل دول العالم خاصة التي لها أقمار صناعية مثل الولايات المتحدة والصين، وهناك تخوف كبير لدى واشنطن بأن الصين ومعها روسيا تعملان على «عسكرة الفضاء» عبر تصنيع صواريخ برؤوس تقليدية تطلق من الفضاء بهدف تدمير السفن والغواصات الأمريكية، ولا تزال واشنطن وبكين ومعهما موسكو بعيدين تماماً عن وضع اتفاقية تمنع عسكرة الفضاء الذي يمثل مستقبل الأجيال القادمة، ولهذا فإن تحقيق اختراق في هذه القضية يمكن أن يكون برداً وسلاماً على مستقبل البشرية وليس فقط المصالح الأمريكية والصينية.حتى اليوم فإن عيد ميلاد الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي ولد يوم 15 يونيو 1953، وعيد ميلاد الرئيس ترامب في نفس الشهر الذي ولد في 14 يونيو 1946 هما الأكثر ترشيحاً كموعد لعقد القمة الأمريكية الصينية، وهو ما يدعو العالم للتفاؤل بأن تكون هذه القمة بمكانة «ميلاد جديد» لعالم يقوم على التعاون والشراكة وليس الصراع والتناحر.
[email protected]

للتمهيد لقمة ترامب شي