د. منصور جاسم الشامسي*
تُواجه «السَلامة الإقليمية للشرق الأوسط»، خاصة، والعالم، عامة، خطراً، من هذا الذي نراه اليوم من سباق التسلح الذي يشهد تسارعاً محموماً و«العسكرة» المفرطة والنزعة الحربية وتعزيز صناعة الأسلحة ونماء «اقتصاديات الحرب» واستخدام القوة، والتصعيد في الخطاب السياسي ولغة التحريض والتهديد والاختلاف والترهيب وإشعال التوترات وانتهاك القانون الدولي، ما يبرز أهمية الالتفات لنظرية «المجتمعات السياسية التشاركية» وتطبيقاتها الرائعة للتخلص من هذه الذروة الكارثية ويتحقق «الهدوء» إقليمياً وعالمياً.
«نظرية المجتمعات السياسية التشاركية» تنموية، تُوَحِّد وتُولّف، على النقيض من «النظريات والنزعات الصراعية» فهي لا تُراهن على «الصراع» المادي والطبقي والفئوي بل تُراهن على النشاط السياسي والدبلوماسي الدائم، وانبساط «الروح الشعبية» في العالم، وقنوات التواصل المفتوحة، وتحقيق «الغِنى» المتبادل – ضد الإفقار، و«التَمدن»، والتفاوض والحوار وضبط النفس عند الخِلاف، والحد من التسلح، والاهتمام بالتراث السياسي الكلاسيكي الذي يُركز على الفضائل الأساسية الإنسانية وجعلها أساساً للعلاقات الدولية والاستراتيجية.
في العصر الحديث انتشرت نظريات تُؤسس لصراعات القوة والصراعات غير الضرورية، تؤمن بصدام الحضارات والثقافات والأيديولوجيات والديانات والمذاهب، المختلفة، واستخدام أساليب «القوة» و«الإكراه» و«القهر» و«الغلبة» و«الاستئثار» و«الحصار» لأجل تحقيق الأهداف، وتعتقد بأن «العنف طبيعة وفطرة إنسانية» و«الغاية تبرر الوسيلة» و«البقاء للأقوى» – وهي مبادئ عنيفة سعت لتأمين السلطة ولكن عبر كوارث، وتُشكك في «المنهج الأخلاقي» وتمتهن «القانون الدولي»، فتكونت، نتيجة لذلك، فئات واتجاهات تميل للصراع، فَتَعَرَض الشرق الأوسط، خاصة، والعالم، عامة، للتصدع والمِحن.
«الصراعيون» جعلوا عنصر «التهديد» سواء كان «حقيقة» أو مجرد «تَصور» أو حتى «وَهم»، هاجساً، وأساساً ثابتاً في العلاقات الدولية، فنشأت، نتيجة لذلك، مظاهر سلبية مثل: نمو شعور الخوف من الآخر ونقص الثقة به والنزاع معه، واللجوء للقوة والضغط والحرب بشكل أكبر من اعتماد مبدأ التفاهم، وقلة التواصل والحوار بين «الفرقاء»، وحدوث الشقاق السياسي والاجتماعي والثقافي، فانتشرت الصدامات، وضاعت، بالتالي، فرص الاستمتاع الأتم بالحياة والأكمل.
في المقابل فإن نظرية «المجتمعات السياسية التشاركية» قِيمية، تستند لمبادئ الوفاق، والمسؤولية المشتركة، والمسؤولية الاجتماعية، والائتلافات التنموية، وبرامج المنظمات الدولية الإنمائية، والترابط الاجتماعي، والحوكمة، والقانون الدولي، والحماية المشتركة، واستحداث منصات للتعاون، والمساواة، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. كما أنها لا تتخذ «القوة» أساساً، وإنما إجراء طبيعي دفاعي دستوري قانوني إنساني تُمليه الضرورة كما له حدود.
وينهض المجتمع السياسي التشاركي على مبدأ «التضحية المتبادلة» الذي من دلالاته تجاوز الخلافات في سبيل المحافظة على المكتسبات، حتى وإن حققها منافس أو خصم، باعتبارها منجزات عامة وإنسانية. قد يحدث، مثلاً، أثناء الأزمات والحروب والتغيرات السياسية، تدمير لبنى تحتية ولمؤسسات وأنظمة ومعدات، واعتداءات. وقد يكون هناك تنافس سلبي، مدمر، بين الموظفين في بيئات العمل، على حساب السياسة والاستراتيجية والمصلحة العامة. وأيضاً، تفوت فرص مصالحة وتعايش سلمي بين المتخاصمين. وكلها تَحدُث لسطوة المفهوم الصراعي التنافسي على التشاركي.
بهذا فإن مفهوم «المصالح» يقوم على أساس «عام» و«مشترك» و«اجتماعي» و«مجتمعي» و«عالمي» و«إنساني» لا على أساس «خاص» و«فردي» و«ذاتي» و«فئوي» و«طبقي»، وذلك لتحقيق التنمية المحلية والإقليمية والعالمية بتناسق. لذا تأتي أهمية تنمية فكر وممارسة «الارتباط» الذي يخلق روابط مصلحية مادية ومعنوية أخلاقية يتم تداولها في علاقاتنا المحلية والإقليمية والدولية، وهذا يوسع من دائرة المشاركة في الحياة والأعمال، ويقضي على أساليب «الإقصاء» و«التهميش» المؤدية لمشاعر سلبية تتحول لكراهية تتطور لنزاعات وعدم استقرار و«انفصال» داخل المجتمعات وما بين الدول.
من مظاهر مشكلة «الانفصال» عدم دراسة وفهم وتحليل «الواقع» ومتطلباته المادية والمعنوية «الحقيقية»، وتحدث عند تعاظم الشعور بالفردية والذاتية المؤدي لضعف الشعور بالمسؤولية العامة، وعدم إدراك التحديات والأخطار «الحقيقية» التي تواجهها المجتمعات «المحلية» و«الإقليمية» و«العالمية»، الذي يتطلب إتقان «دراسة المخاطر» بأنواعها.
«المجتمعات السياسية التشاركية» تُعالج مشكلة «المشاعر والأخلاق السلبية» بتكثيف الاستثمار الاجتماعي والعلمي وإطلاق المبادرات بفرق أعمالها الواسعة على النطاق الداخلي والخارجي. وهذا يفتح فرص تشارك ومشاركات وشراكات تنموية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية ومهنية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية لها فوائدها كما نصنع بها لغة حوار عالية متحضرة. تاريخياً، هناك تشارك فعلي تم بين حضارات وشعوب ومجتمعات وثقافات وديانات ومذاهب مختلفة، توجهنا اليوم للاستفادة منها كونها مورد إلهام. وهذا يعني وأد المشاعر السلبية بالعمل التنموي المشترك فتنمو بديلاً عنها المشاعر والطاقة الإيجابية.
«المجتمعات السياسية التشاركية» تؤمن بالعولمة التشاركية والتي بها فرص مشاركة لجميع الدول بتنوع ثقافاتها وهوياتها، فلا تكون العولمة حِكراً على اتجاه معين، أو تكون هيمنة مفروضة من الخارج، أو عولمة «فوقية» أو «أُحادية» القطب، وإنما تكون فضاءات معرفية مفتوحة متنوعة متصلة متفاعلة تتنافس بها الأفكار والمنتجات والابتكارات والأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وتتشكل على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، فتصبح فرص النماء والإبداع أكبر ومتساوية في ظل تنامي سلام واستقرار محلي وإقليمي وعالمي، مترابط. و«العولمة التشاركية» تعني عدم مطالبة الأفراد والمجتمعات والدول بالتخلي عن ثقافاتهم وهوياتهم الوطنية، أو إضعافها، وإنما العكس، إبرازها للعالم، وإثراؤه بها، وإتحافه بجمالياتها.
نظرية وتطبيقات «المجتمعات السياسية التشاركية» تُعطي معنى للحياة لقدراتها اللامتناهية على صنع الاستقرار والسلام والتنمية معاً.