د. أيمن سمير
يقول المغني الأمريكي بول سايمون في إحدى أغانيه الشهيرة «الأرقام لا بد أن تترك لك علامة على الباب»، لهذا كان يجب على ممثلي الجيش السوداني الذين وقفوا مرتبكين ومتناقضين أمام محكمة العدل الدولية أن يراجعوا أرقام الدعم الإنساني والإغاثي الإماراتي، ويراجعوا في الوقت نفسه أرقام الضحايا والمشردين التي خلفها إصرار القيادات الإخوانية في الجيش السوداني على مواصلة الحرب، ورفض كل الدعوات العربية والإفريقية والدولية لوقف حرب لا يعرف أحد متى تنتهي.
فالإمارات هي أكثر دول العالم التي قدمت الدعم الإنساني والإغاثي للشعب السوداني منذ محنة دارفور الأولى عام 2003، وقبلها أثناء الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان، وفي الفترة الأخيرة من 2014 حتى 2025 قدمت الإمارات مساعدات إنسانية وطبية بنحو 3.5 مليار دولار، بما يجعلها أكثر دول العالم من حيث الاستجابة للنداءات الإنسانية التي تطلقها الأمم المتحدة من أجل دعم الشعب السوداني. ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل 2023 قدمت الإمارات مساعدات بنحو 600 مليون دولار، منها 200 مليون دولار تعهدت بها الإمارات في شهر فبراير من هذا العام أثناء مؤتمر الدعم الإنساني الذي استضافته إثيوبيا.
رغم كل الاتهامات وذهاب الجيش السوداني إلى محكمة العدل الدولية وقبلها لمجلس الأمن لم تتخل الإمارات يوماً عن السودان، حيث شاركت قبل ثلاثة أيام فقط في «مؤتمر لندن حول السودان»، وذلك يوم الثلاثاء 15 إبريل الجاري عندما دعت الإمارات لعمل جماعي «لإنقاذ الأرواح السودانية»، وهو ما يؤكد أن الإمارات عازمة على دعم شعب السودان في محنته مهما تعرضت لاتهامات وأكاذيب من فصيل «الإخوان» السوداني، ولهذا لم تترك الإمارات مناسبة إلا ودعت فيها لوقف الحرب، والتأكيد على أن الحلول السياسية والدبلوماسية هي وحدها الكفيلة بحل الصراع في السودان.
على النقيض من ذلك ترفض القيادات الإخوانية التي تتحكم في قرار الجيش السوداني أي دعوة لوقف الحرب، وأفشلت كافة الجهود الرامية لوضع نهاية لهذه المآسي منذ مؤتمرات جدة والمنامة وجنيف، وهو ما أوصل الشعب السوداني إلى أرقام مخيفة، ووفق تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية فإن رفض الجيش السوداني للاتفاق الإطاري الذي كان قبل 15 إبريل 2023 والدخول في حرب أهلية أدى إلى مقتل 150 ألف شخص، ونزوح نحو 13 مليوناً من بيوتهم، منهم 9 ملايين مهاجر قسري داخل السودان، ونحو 4 ملايين في دول الجوار، وبحسب شون هيوز المسؤول عن السودان لدى برنامج الأغذية العالمي، يواجه نحو 25 مليون سوداني خطر المجاعة، ومعاناة 5 ملايين طفل من سوء التغذية الحاد، وأن نحو 30 مليون سوداني في الوقت الحالي يعتمدون على المساعدات الخارجية. ومع تعدد الأزمات الأخرى في العالم، وتحول الحرب في السودان الى أزمة «منسية» يمكن أن يتفاقم الوضع الإنساني الى ما هو أسوأ من ذلك.
مشهد الدعم الإماراتي من جانب، ومشهد الارتباك في أداء وحديث ممثلي الجيش السوداني من جانب آخر كشف للعالم أن القضية التي وقفت خلفها جماعة الإخوان في محكمة العدل الدولية ما هي إلا «مكايدة سياسية»، ومحاولة جديدة «لشراء الوقت» وجذب للأنظار بعيداً عن حقيقة المعاناة التي يعانيها نحو 50 مليون سوداني، فكيف كان الرد الإماراتي الحاسم على كل الأكاذيب في محكمة العدل الدولية؟ وإلى أي مدى وجدت دعوى الجيش السوداني ضد الإمارات رفضاً قاطعاً من مختلف الشرائح السودانية؟.

شواهد تدحض الافتراءات
المدقق في مرافعة الجيش السوداني أمام العدل الدولية سوف يكتشف بسهولة عدم وجود أي أدلة على اتهامات «إخوان السودان» ضد الإمارات، وأن المرافعة كلها كانت كلاماً مرسلاً، وجرى تجميعه من وسائل التواصل الاجتماعي، على الجانب الآخر كانت مرافعات الوفد الإماراتي تقوم على المنطق والأدلة المادية الملموسة في إطار سياسي وقانوني رفيع يتفق مع مواقف الإمارات الداعمة للشعب السوداني، والملتزمة دائماً بالقانون الدولي، والقانوني الدولي الإنساني، ولهذا يمكن استخلاص عدد من المشاهد اللافتة من جلسة المحكمة وهي:
أولاً: لا جديد ولا قرائن أو حجج
لم يحمل ممثلو الجيش السوداني أي دليل أو قرينة قانونية أو حجة منطقية في المرافعة أمام المحكمة، بل على العكس جميع ما تفوهوا به سبق لهذه الجماعة أن افترته على الإمارات في وسائل التواصل الاجتماعي، وأمام مجلس الأمن، والمجلس العالمي لحقوق الإنسان، وسبق أن أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية في أغسطس 2023 أن دولة الإمارات تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف السودانية، ولا تنحاز لطرف على حساب طرف، ولم تقدم أي دعم مالي أو لوجستي أو عسكري لأي طرف من أطراف الصراع. وأرسلت دولة الإمارات رسالة الى مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بتاريخ 21 إبريل 2024، تؤكد فيها على أهمية الحل السلمي للحرب في السودان، وأن السلاح لا يمكن أن يحسم الصراع الذي ينبغي أن ينتهي على مائدة المفاوضات، والعودة للحكم المدني المتفق عليه بين كل المكونات السودانية قبل اندلاع المعارك بين الجيش السوداني والدعم السريع. وبعد تلك الرسالة بنحو شهرين، وفي 29 يونيو 2024 أصدرت الإمارات بياناً موجهاً لمجلس الأمن رفضت فيه كل التهم التي ظل الإخوان يروجونها عبر المنصات الإعلامية، وكررها ممثلو الجيش السوداني أمام محكمة العدل الدولية، وفي كل مرة كان الرد الإماراتي مقنعاً ومنطقياً عبر الشواهد التالية:
1- الهواتف المحمولة
قالت الإمارات في أكثر من مناسبة أنها لم ترسل أي هواتف يزعم «إخوان السودان» أنها إماراتية، وتستخدم في الاتصالات العسكرية، وقالت الإمارات في رسائلها لمجلس الأمن، والمجلس العالمي لحقوق الإنسان، وردها على ادعاءات الجيش السوداني أمام محكمة العدل الدولية أن الصور المتداولة لهذه الهواتف هي لهواتف مدنية وليست عسكرية، وكان يجري إنتاجها لأهداف تجارية، وكانت تباع في الأسواق والمحال، وهي موديلات قديمة وقبل عام 2000، أي قبل اندلاع الحرب ب23 عاماً كاملة، ووجودها في السودان أو أي دولة أخرى لا يعد دليلاً أو حجة على دعم طرف دون طرف خصوصاً أن الشركة المنتجة لهذه الهواتف غيرت منذ نحو 10 سنوات كل ما يتعلق بالهوية البصرية والشكل العام لكل منتجاتها.
2- المستشفيات الميدانية
زعم مندوب الجيش السوداني أن المستشفيات الميدانية التي أقامتها الإمارات على حدود السودان الغربية مع تشاد تستخدم لتقديم دعم عسكري لقوات الدعم السريع، وهذا أمر لا يصدقه عقل، لأن هناك مستشفيين ميدانيين إماراتيين في تشاد، والثالث في جنوب السودان، وسبب إقامة هذه المستشفيات في دول الجوار وليس في السودان هو رفض الجيش السوداني لطلب رسمي تقدمت به الإمارات في 25 مايو 2023 لإقامة هذه المستشفيات على الأراضي السودانية. أما ادعاء الجيش السوداني بأن الإمارات رفضت دخول ممثلي الصليب الأحمر الدولي لمستشفي أمدجراس في تشاد فمردود عليه لأن من يعطي تصريح الدخول للمستشفي الميداني هي الدولة المستضيفة للمستشفى، وليس الدولة التي تبني مستشفى ميدانياً. كما أن الإمارات لم يسبق لها أن منعت أي وفود من دخول المستشفى التي يعمل بها فرق طبية من جنسيات مختلفة، ويدخل ويخرج منها المرضى على مدار الساعة. ووصف بيان صادر من الهلال الأحمر الإماراتي بتاريخ 28 سبتمبر 2024 ادعاءات الجيش السوداني حول رفض السماح لوفد الهلال والصليب الأحمر الدولي بالدخول لمستشفى أمدجراس بأنها ادعاءات باطلة وافتراءات لا تستند إلى أي دليل، وأن من أطلقوا هذه الادعاءات فشلوا تماماً في إثباتها بأي دليل، وأن مستشفى أمدجراس أنشئ في يوليو 2023، أي بعد اندلاع الأزمة السودانية في إبريل من العام ذاته، وبعد الرفض الصريح لطلب إنشاء مستشفى ميداني داخل السودان، ومهمة هذا المستشفى تنحصر في تقديم الرعاية والدعم الطبي للفئات الأكثر ضعفاً وتضرراً في بيئة إنسانية حرجة ومعقدة، وأن تشغيل المستشفى يجري في إطار إنساني بحت، ويركز حصرياً على توفير الخدمات الطبية الأساسية للمرضى المحتاجين، انسجاماً مع المبادئ الإنسانية والقوانين الدولية، التي تلزم كافة العاملين في المجال الطبي بتقديم الرعاية الصحية لكل من يحتاج اليها، وبما يتوافق مع الاعتبارات الطبية فقط، دون أي تمييز أو غرض آخر، وأن علاقة الهلال الأحمر الإماراتي طويلة وممتدة وعميقة الصلة مع اتحاد الهلال والصليب الأحمر الدوليين منذ انضمام دولة الإمارات للاتحاد عام 1986.
3- جوازات السفر
كان رد الإمارات حاسماً وقاطعاً حول الادعاءات المتكررة من جانب «إخوان السودان» بوجود جوازات سفر لشخصيات إماراتية زارت السودان، وبالعودة إلى الحقائق يتأكد أن جوازات السفر هذه تعود الى عاملين في المجال الإنساني ورجل أعمال زار السودان قبل اندلاع الحرب بسنوات، وطبيعي أن يكون لدى السودان صور ضوئية من جوازات السفر هذه، وهنا أخرجها «الإخوان» لإعطاء انطباع كاذب بأن هؤلاء الأشخاص ذهبوا إلى السودان لدعم فريق ضد آخر، رغم أن أصحاب جوازات السفر تلك زاروا آخر مرة السودان قبل اندلاع الحرب بسنوات. ولهذا لا يمكن اعتبار ذلك دليلاً على دعم الإمارات لفريق ضد آخر، خاصة أن السودان كان يرحب ويشيد بجهود هؤلاء الأشخاص في دعمهم للشعب السوداني.
4- الأسلحة الإماراتية المزعومة
بعيداً عن حقيقة أن بيع السلاح لا يتم دائماً بصورة مباشرة للمستهلك النهائي الذي يستخدم السلاح على الأرض، أوضحت الأمارات أنها وقعت اتفاقية دفاعية مع الحكومة السودانية في 29 يوليو 2020، وقدمت بموجب هذه الاتفاقية دعماً للحكومة السودانية التي كانت تضم في ذلك الوقت طرفي الحرب الجيش السوداني و«الدعم السريع»، وظهور هذا السلاح في يد أحد طرفي القتال لا يعد قرينة أو دليلاً على دعم الإمارات لأي طرف من طرفي الحرب.

5- الجسر الجوي
من الادعاءات التي روجها الجيش السوداني خلال الفترة الماضية بما فيها أمام محكمة العدل الدولية أن الإمارات كانت تستغل «الجسر الجوي» لتوصيل سلاح للدعم السريع، وهذه كذبة جديدة ويصعب على أي شخص أن يصدقها، لأن أيادي الإمارات البيضاء الممتدة بالدعم والخير والمساعدة للشعب السوداني لم تتوقف، وقامت بتسيير جسرين، جوي وبحري، نقلت من خلالهما نحو 13,168 طناً من المواد الغذائية والطبية والإغاثية عبر 162 رحلة جوية، وعدد من سفن الشحن، وذلك ضمن التزام إماراتي راسخ بمبادئ التضامن الإنساني، والدعم للمتضررين من النزاعات والكوارث من كل الجنسيات.
ثانياً: دليل على عدم وجود أدلة
تحليل المرافعة التي قدمها وفد جماعة «الإخوان» في الجيش السوداني أمام محكمة العدل الدولية قامت فقط على الاستنتاج وليس الدلائل والقرائن القانونية الملموسة والتي يمكن للمحكمة أن تتأكد منها، فلم يقدم وفد جيش البرهان أي دليل يمكن للمحكمة أن تتحقق منه، لكن لعل أكبر دليل على عدم وجود أدلة، وأن ما لدى الجيش السوداني هو استنتاجات فقط، طلب ممثلي الجيش السوداني من المحكمة «تخفيض معايير قبول الأدلة»، وهو ما يؤكد غياب الدليل الواضح والمباشر، وعدم اعتمادهم على أي وقائع مثبتة أو أدلة دامغة، وأن هدفهم فقط هو تشويه صورة الإمارات أمام محكمة العدل الدولية.
ثالثاً: الضعف البنائي للدعوى
تحليل الشكل والمضمون للمرافعة التي قدمها وفد «إخوان السودان»، يؤكد أنها تفتقر إلى البناء المتماسك الذي يقوم على الأدلة المترابطة، وأنها دعوى تقوم فقط على الظنون أكثر من الوقائع، الأمر الذي يؤكد أن القضية تفتقر للأسس المادية والإثباتات القانونية، ولهذا لا يمكن وصفها إلا أنها محاولة للتغطية على الفشل الداخلي وتصدير الأزمات للخارج.
رابعاً: تناقض
دائما ما كانت قيادات «الإخوان» في الجيش السوداني تتهم المؤسسات القضائية الدولية بالتسيس والازدواجية، لكن في سبيل التشويش على حقيقة ما يجري في السودان، وتشتيت انتباه السودانيين والمجتمع الدولي بعيداً عن الحقائق على الأرض تحاول هذه الجماعة عبر الجيش السوداني توظيف المؤسسات القضائية الدولية كمنصة لإطلاق الأكاذيب والدعاية السوداء ضد الإمارات، لكن رد الإمارات سواء في محكمة العدل الدولية أو في مجلس الأمن أوضح للجميع «ركاكة وضعف» الادعاءات والاتهامات التي ينشرها «إخوان السودان» ضد الإمارات.