ريادة إماراتية في زمن الحروب التجارية

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

جابر محمد الشعيبي*

في خضم الحروب التجارية التي أطلقت شرارتها الولايات المتحدة برفع الرسوم الجمركية على واردات من عدة دول، لم تكن دولة الإمارات بمنأى عن تداعيات هذه السياسات، رغم عدم استهدافها المباشر، إلا أن الإمارات برزت كنموذج ريادي في كيفية التعامل مع هذه التحولات الجيو-اقتصادية. فقد استطاعت الدولة أن تتجاوز موقع المتأثر إلى موقع المؤثر، من خلال استراتيجيات استباقية جعلت منها مركزاً اقتصادياً عالمياً يعيد توجيه مسارات النمو في الشرق الأوسط وخارجه.
إن قرار الإدارة الأمريكية برفع الرسوم الجمركية على سلع قادمة من الصين، والاتحاد الأوروبي، ودول أخرى، قد أدى إلى اضطراب واسع في حركة التجارة العالمية وموجة من التحديات مباشرة وغير المباشرة، ترتبط بتعقيدات سلاسل التوريد، وارتفاع التكاليف، وتراجع الطلب في بعض الأسواق العالمية وخسارة غير مسبوقة في أسواق الأسهم العالمية.
تبنّت الإمارات مقاربة متعددة المسارات لمواجهة تداعيات الحروب التجارية، حيث استثمرت في بنيتها التحتية اللوجستية ووسّعت شبكة علاقاتها التجارية وزيادة تنافسيتها عبر اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA). ومن أبرز هذه الاتفاقيات، الشراكة مع الهند التي من المتوقع أن ترفع حجم التبادل التجاري غير النفطي إلى أكثر من 100 مليار دولار بحلول 2030. كما عقدت الإمارات شراكات مماثلة مع إندونيسيا وتركيا وكوريا الجنوبية، ما أسهم في تعزيز مكانتها كلاعب رئيسي في منظومة التجارة متعددة الأطراف، وأتاح لها تنويع أسواق التصدير مما قد تستخدم الشركات الصينية الموانئ الإماراتية لإعادة تصدير منتجاتها إلى أسواق أخرى لتجنب الرسوم الجمركية الأمريكية. بالإضافة إلى اعتماد الإمارات مؤخراً ضمن مجلس الوزراء 44 اتفاقية دولية في مجالات اقتصادية وتنموية وحكومية والبدء في التفاوض على اتفاقيات لحماية وتشجيع الاستثمارات مع 30 دولة حول العالم.
ضمن هذا المشهد، يبرز دور مجلس التعاون الخليجي كمنصة تكاملية قادرة على توسيع نطاق تأثيرها في تعزيز التجارة البينية الخليجية وتنسيق السياسات الصناعية والجمركية بين دول المجلس، من شأنه أن يخلق تكتلاً اقتصادياً قادراً على مواجهة التحديات العالمية بفاعلية. الإمارات يمكن أن تقود هذا التوجه عبر نقل خبراتها في مجال التفاوض التجاري، وتطوير التشريعات الاقتصادية، وتحفيز التكامل اللوجستي، بما يعزز من قدرة المنطقة ككل على استقطاب الاستثمارات وتقديم نفسها كبديل جذاب في منظومة التجارة الدولية.
كما أن انضمام الإمارات إلى مجموعة بريكس يُعد تطوراً استراتيجياً في سياق التغيرات الجيو-اقتصادية العالمية. فالمجموعة، التي تضم قوى مثل الصين، الهند، وروسيا، توفر منصة للتنسيق الاقتصادي وتُمكن عضوية الإمارات من الوصول إلى أسواق ضخمة، وتبادل الخبرات، والمشاركة في صياغة توجهات تجارية ومالية جديدة. من خلال هذا الدور، تستطيع الإمارات أن توسع نفوذها الاقتصادي وتنسق السياسات التجارية مع تنوع الشركاء، مما يعزز من قدرتها على التكيف مع الحروب التجارية ويوفر لها دعماً دبلوماسياً واقتصادياً في المحافل الدولية.
في الوقت ذاته، عززت الإمارات موقعها كبوابة بديلة للتجارة العالمية، حيث قدر تقرير ل «موردور إنتليجنس» العالمية للأبحاث، حجم سوق الشحن والخدمات اللوجستية في الإمارات بنحو 20.11 مليار دولار أمريكي في عام 2024، مع توقعات بتحقيق نمو سنوي مركب يتجاوز 7% ليصل إلى 30.19 مليار دولار بحلول عام 2030. هذا الدور لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة استثمارات استراتيجية طويلة المدى في الموانئ، المناطق الحرة مثل «جافزا» و«كيزاد»، والتقنيات الذكية في إدارة التجارة، واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين لتسريع الإجراءات الجمركية وتحسين كفاءة سلاسل الإمداد.
ومع سعي بعض الشركات العالمية في قطاع الصناعة إلى تفادي حروب الرسوم الجمركية قد تبحث عن إقامة منشآت تصنيع أو تجميع في الإمارات كبديل استراتيجي لتلبية الطلب الإقليمي والدولي وبالتوازي قد تدفع تلك القيود التجارية الدولية إلى تسريع الإمارات بشكل أكبر في بناء قدراتها المحلية في مجال التصنيع التقني والتقنيات المتقدمة، وهو ما يعزز من استقلالها الاقتصادي ويزيد قدرتها على الابتكار، حيث من خلال مبادرة مشروع 300«مليار» انطلاقاً من هدفها النهائي المتمثل في رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 300 مليار درهم بحلول 2031.
ومن المتوقع أن تتحول الإمارات إلى مركز إقليمي لحلول سلاسل التوريد الذكية، مستفيدة من بنية تحتية رقمية متقدمة وشبكات لوجستية عالمية المستوى. ومع توجّه عدد من الدول نحو سياسات حماية تجارية، ستجد الشركات العالمية في الإمارات بوابة مرنة وآمنة للوصول إلى أسواق متعددة.
ومن أهم توصياتنا في هذا الصدد، هو دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال إطلاق حزم تحفيزية في تسهيلات جمركية ورفع كفاءة الاستجابة التجارية.
اليوم، تتجاوز الإمارات دور المستجيب للأزمات إلى دور المبادر في صياغة نموذج أكثر عدالة وتوازن في التجارة العالمية. فبفضل حيادها السياسي واستقرارها الداخلي، أصبحت شريكاً موثوقاً للدول الباحثة عن بيئة استثمارية خالية من النزاعات في ظل نظام اقتصادي عالمي متقلب. كما أن دبلوماسية الدولة تعزز من التكامل بين القطاعات الاقتصادية، وضمان توازن بين التوسع الاقتصادي الخارجي، التي تشمل معظم اتفاقياتها بنوداً تتعلق بالاقتصاد الأخضر، والحوكمة البيئية، والابتكار، مع السياسات الوقائية الداخلية ما يجعل الإمارات دولة تصدر الفرص لا التحديات.

* كاتب وباحث

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"