عبد الإله بلقزيز
منذ انتقال النّظام الرّأسماليّ الأوروبيّ انتقالتَه الحاسمة من طوْر المنافسة الحرّة بين الرّأسماليّات القوميّة إلى طوْر رأسماليّة الاحتكار، أو الطّور الإمبرياليّ - وكان ذلك، ابتداءً، في عقد الثّمانينات من القرن التّاسع عشر- انطلقت نتائج ذلك في شكل تحوُّلات جيوسياسيّة ذاتِ طابع كونيّ تعاقبت ثمّ تزامنت في فترةٍ فاصلة بين نهايات ذلك القرن ونهايات أربعينات القرن العشرين. نشير، في ما يلي، إلى ثلاثة من أظْهر تلك التّحوّلات وأبْعدِها أثراً في علاقات الأمم وعلاقات الدّول بعضِها ببعض:
أوّلها كان الاستعمار، حيث قاد التّطوّر الاقتصاديّ والصّناعيّ المتسارع إلى اصطدام الرّأسماليّات الأوروبيّة بحدودها القوميّة الضّيّقة، وبواقع الإمكانيّات المتواضعة التي تسمح بها تلك الحدود أمام عمليّة تعظيم المصالح. كان من نتائج هذا أن نشأت حاجات جديدة ضاغطة، لدى تلك الرّأسماليّات، إلى التّوسّع خارج حدودها القوميّة، وهو توسُّع اتّخذ شكل زحفٍ عسكريّ استعماريّ على البلدان التي كانت «وراء البحار» (بلدان الجنوب)، من أجل احتلالِها وإقامة إدارات عسكريّة استعماريّة فيها تابعة لعواصم الدّول الأوروبيّة.
كان الهدف واضحاً منذ ابتداء هذا المسار من سيطرة أوروبا - وأمريكا الشّماليّة استطراداً - على العالم: السّيطرة المباشرة على المواد الخام الضّروريّة للصّناعة ونهبها من مصادرها في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة والوسطى، جلْبُ الأيدي العاملة الرّخيصة من المستعمرات أو إقامة صناعات خفيفة في تلك المستعمرات وتسخير العَمالة المحليّة الرّخيصة بأقلّ كلفة، توفير أسواق جديدة للمنتوجات الرّأسماليّة الأوروبيّة خارج أوروبا. هكذا أتى الاستعمار يترجم أولى الحاجات الموضوعيّة التي قضى بها حصولُ ذلك الانتقال في النّظام الرّأسماليّ من المنافسة إلى الاحتكار.
ثانيها عبّر عنه الصّدام بين الإمبرياليّات في شكل حربين عالميّتيْن خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين، من حيث هو صدام موضوعيّ يدفع إليه بلوغ تناقضاتِها حدودَها الانفجاريّة ويَحْمل عليه تضارب مصالحها واشتداد النّزاع بينها على مناطق النّفوذ. معنى هذا أنّ خروج النّظام الرّأسماليّ من حدوده القوميّة - نتيجة لذلك الانتقال فيه الذي مرَّ ذِكرُه - ما كان يمكنه أن يصل به سوى إلى صدامِ مصالح الرّأسماليّات القوميّة، وهو الصّدام الذي يبعث عليه شعور كلّ رأسماليّة قوميّة بوجود خطرٍ محدِق يروم السّيطرة على مناطق نفوذها خارج حدودها من طرف رأسماليّة أخرى.
لكنّ هذا مجرّد وجْه واحدٍ للمسألة، أمّا وجوهُها الأخرى فعديدة لعلّ أَظْهَرَها ذلك التّلازُمُ، الذي ما انْفكّ يستمرّ حضوراً، بين الرّأسمال والحرب وما انْفكّ يفعل فعْلَ الأثرِ المتبادَل بينهما. هكذا كان تناقض مصالح الرّأسماليّات الإمبريالية يقود إلى الحروب بينها، في الوقت عينه الذي كانت تتَوَسَّل فيه الحروبُ وسائلَ لتحصيل تلك المصالح وتعظيمها والدّفاع عنها. ولقد خيضت حروب الإمبرياليّات تلك على أراضيها وفي مستعمَراتها وجُنِّد فيها الملايينُ من أبناء المستعمرات لكي يخوضوها دفاعاً عن مغتصِبي ديارهم من المستعمِرين! لذلك أتت حروب الرّأسماليّات الإمبرياليّة حروباً عالميّة.
أمّا ثالثها فيتمثّل في صيرورة النّظام الرّأسماليّ نظاماً كونيّاً، وهي الصّيرورة التي تحقّقت في بحْرِ عقودٍ قليلة توسَّع فيها ذلك النّظامُ وخرج عن دوائره القوميّة الأصل. لقد كانت حركة الاستعمار هي الصّهوة السّياسيّة والعسكريّة التي امتطاها نظامُ الإنتاج ذاك من أجل أن يتوسّع خارج حدوده الأوروبيّة- الأمريكيّة، هكذا، ما إنِ استقرّت جيوش المستعمِرين في بلدان الجنوب وأقام الأخيرون إداراتهم العسكريّة فيها، حتّى بدأ تعميمُ علاقات الإنتاج الجديدة من طريق عمليّة الرّسملة التي «زرِعت» بها تلك العلاقاتُ الإنتاجيّة وتَوَسَّع نطاقُها في نظام الإنتاج الزّراعيّ ثمّ الصّناعيّ.
ولم تكن قوى الاستعمار قد جَلَتْ عن مستعمراتها حتّى كانت البِنى الاجتماعيّة- الاقتصاديّة فيها قد تَرَسملتْ بدرجاتٍ متفاوتة ودخلت، بالتَّبَع، في دائرة النّظام الرّأسماليّ العالميّ. على أنّ هذا النّظام ما كان واحداً ومتماثلاً في مراكزه (الأوروبيّة والأمريكيّة) وفي المستعمرات التي نالت استقلالها الوطنيّ وورِثت ذلك النّظام الإنتاجيّ، بل كان متفاوتاً تفاوُتاً مَهُولاً وقائماً، في الوقت عينِه، على علاقة غيرِ متكافئة بين طرفيه: سيطرة من قِبَل بلدان الرّأسماليّة الغربيّة واقتصاداتها، وخضوع من طرف بلدان المستعمرات التي نالت استقلالها السّياسيّ دون الاقتصاديّ.
هيّأتِ التّحوّلاتُ الثّلاثة المشارُ إليها الشّروطَ الموضوعيّة لقيام علاقات التّبعيّة داخل النّظام الرّأسماليّ بين مكوِّنين منه: بين مركزٍ تمثّله بلدان الرّأسماليّة الغربيّة وبنياتها الاجتماعيّة- الاقتصاديّة المسيطرة على منظومة الإنتاج في العالم، من جهة، وأطراف - أو هوامش - تمثّلها بلدان الرّأسماليّة في عالم الجنوب وبنياتها الإنتاجيّة من جهةٍ ثانية. العلاقة بين العالميْن (عالم الميتروپول الغربيّ والهوامش الجنوبيّة) هي علاقة سيطرةٍ للمراكز وخضوعٍ للأطراف، وهي التي أطلِق عليها اسم التّبعيّة.
يتعلّق الأمر، إذن، بعلاقةٍ بنيوية لا بعلاقةٍ عارضة، أي بعلاقةٍ تَشُدّ بنى الإنتاج في الرّأسماليّات الطّرفيّة إلى بنى الإنتاج في الرّأسماليّات الميتروبوليّة بخيوط الخضوع والتّبعيّة التي لا تترك للرّأسماليّات التّابعة مجالاً أمام الاستقلال بذاتها عمّن يتحكّم فيها من خارجها. هذا هو السّبب في أنّ استقلال المستعمرات أتى منقوصاً لأنّه كان استقلالاً سياسيّاً، حصراً، فيما ظلّتِ التّبعيّةُ الإنتاجيّة والاقتصاديّة تفرض عليه حدوداً متواضعة.