عبدالله السويجي
التاريخ هو سلسلة متّصلة من الأحداث، وفهمُ ما يدور في الحاضر يعتمد بالضرورة على فهمِ ما حدث، أو كان يحدث في الماضي، والمستقبل هو خلاصة الزمنين معاً، لهذا من الأهمية بمكان عدم إسقاط مرحلة والنظر إليها كماضٍ ونضع نقطة في آخر السطر. هذا ما يفعله المخططون الاستراتيجيون والمفكّرون السياسيون ورجال السياسة بشكل عام. وهذا أيضاً، ينطبق على حياة الإنسان الفرد، كما ينطبق على حياة المجموعة والمجتمعات.
مقدّمة لا بد منها لقراءة المشهد العربي السياسي الحالي، وهو محصّلة للمشهد السابق أو الماضي، وبشكل مباشر نتحدث عن المجتمعات التي عاشت مسلسلات العنف التي بدأت قبل عقد ونصف، ولا تزال تداعياته ومخرجاته ماثلة، وتمثل أمامنا، كلّما قرأنا عن حادث غريب يتّسم بالتطرّف والتشدّد، لا سيّما أن تلك المجتمعات المعنية خضعت لحكم التنظيمات المتشدّدة لأكثر من عقد من الزمان، ما يعني أن جيلاً تربّى ونشأ في مجتمعات لها سمات محدّدة، يؤمن بأفكار ينتج عنها حوار، إمّا يأخذ طابع السلم أو طابع العنف.
ويعود السبب في ذلك إلى نوعية المناهج التعليمية التي يتم ترسيخها في أذهان الأجيال، ونحن نتحدث عن جيل كامل، ذاك الذي وُلد في لحظة اندلاع العنف، وأصبح عمره الآن 15 عاماً، أو الجيل الذي كان عمره 6 سنوات وأصبح عمره 21 عاماً الآن، ولا فرق بين الجيلين سوى في عدد السنوات، إذن لدينا جيل كامل نشأ في بيئة متشدّدة، ربما انتظم في المدارس، وتلقّى بالضرورة منهجاً مختلفاً لا يشبه المناهج التعليمية العادية، كما نشأ وفق قيم اجتماعية، إضافة إلى المعتقد الديني المتزمّت وشيء من الكراهية، وهناك جيل آخر نشأ في الخيام، وربما لم يدخل المدرسة قط، وهذا يعني أننا أمام جيل من الأمّيين. والمدهش في الأمر أن الإعلام كفّ عن متابعة الحياة في تلك المناطق، إن كانت الحياة التعليمية أو الاجتماعية الأسرية أو العملية، وهذا ما قصدناه حين قلنا إن فترة زمنية سلخها كثيرون عن التاريخ وعن الزمن، سلخها وهي ما زالت باقية وحيّة، إما إمعاناً في التجاهل، أو رضوخاً للأمر الواقع.
وسيفاجئنا أبناء تلك الحقبة في وقت ما، بظهورهم، إما بطريقة مسلّحة يريدون تصحيح الكون وتربية الناس، وإما سيظهرون متشرّدين منتشرين بين الناس، يبحثون عن عمل أو طعام أو مأوى، بعد تفكيك التنظيمات التي كانت تحكمهم، وهنا يكمن التّحدي الأكبر، كيف سيتم إيواؤهم أو تعليمهم أو احتواؤهم أو تأهيلهم من جديد. إن التغاضي عن هذا الجيل سلوك خطير جداً، وتجاهلهم عملية أخطر، فهم لديهم القناعات الكافية (ليثأروا) من كل من يتصدى لهم.
إن حاجة هؤلاء ليست للكهرباء والغاز والطعام والماء، هم في حاجة إلى احتواء وتأهيل وتدريب، وهي عملية صعبة للغاية، تبدأ في جمع البيانات الحقيقية عن أعدادهم، وأماكن سكنهم، والتعليم الذي تلقّوه، والقيم التي يؤمنون بها، هم في حاجة إلى تصميم مناهج خاصة بهم، يشرف عليها أخصائيون متنوّرون صبورون، ليكونوا أفراداً لديهم استعداد للانخراط في المجتمع.
إن تلك الفئة التي نتحدث عنها موجودة في أكثر من مجتمع وأكثر من دولة، منهم في بلاد الشام ومنهم في شمال إفريقيا، ومنهم في قلب العالم العربي، أي أنهم يعيشون في بيئات مختلفة وظروف مناخية واجتماعية مختلفة، وهذا يعني أننا في حاجة إلى أكثر من منهج تعليمي، ما يعني أن على جامعة الدول العربية والإدارات التعليمية فيها، أن تقوم بدور ريادي علمي وتعليمي، والتواصل مع الدول المعنية لتصميم مناهج جديدة موائمة وملائمة، بالتزامن مع وضع خطة إعلامية عربية، ورصد ميزانيات في الجامعة وفي الدول المعنية.
وحتى لا نضع العربة أمام الحصان، نقترح تفكيك مخيمات النازحين داخل بلدانهم وخارجها، وإعادتهم إلى مناطقهم التي نزحوا عنها، وتهيئة الظروف الصحية والمعيشية لهم، ليكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم. هي عملية متشعبة لا بد أن تعتمد استراتيجيات وخططاً بعيدة المدى. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن إعادة التأهيل يجب أن تشمل الأهالي الذين يعانون النزوح واللجوء منذ 15 عاماً.
قد تبدو الفكرة غريبة للبعض خاصة أن الحديث يدور في بعض الأماكن عن ترحيل أو إعادة إعمار أو تجنيس أو تهجير إلى البلدان الأوروبية، وكل مفردة تحمل هواجس عديدة وتعقيدات كثيرة، ويجب عدم ترك الأمر للمنظمات الدولية، مثل الأونروا أو اليونيسكو أو مفوضية شؤون اللاجئين، لأن المهمة وطنية بامتياز وليست مجرد مهمة إنسانية.
ونحن هنا لا نتحدث عن اللاجئين الفلسطينيين، رغم أن جزءاً منهم يمكن وضعه ضمن المشهد الموصوف أو المعني، اللاجئ الفلسطيني لديه معاناة مضاعفة الآن، إضافة إلى الضبابية التي تكتنف مشهده، والمرتبطة بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، نحن نتحدث عن نازحين يفوق عددهم عدد اللاجئين الفلسطينيين، ويتعرضون للإهمال الشديد في أماكن نزوحهم، وتنتشر بينهم الأمّية إضافة إلى الأمراض الاجتماعية الأخرى التي تهدّدهم ومحيطهم.
السكوت عن هؤلاء يمهد لتكوين قنبلة موقوتة، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، وكلما سارع المعنيون بعلاجها كلما تجنّبوا كارثة إنسانية ووطنية.