أليس هذا ما كنتم تبغون؟

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

عجيب حقاً أمر كثير من الكتّاب والمعلقين الذين يكادون ينتحبون على ما يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالولايات المتحدة واقتصادها ومكانتها العالمية.. إلى آخر كل تلك التعبيرات الفخمة. فأغلب هؤلاء ممن يكتبون ويتحدثون منذ زمن عن هيمنة أمريكا على العالم وانفرادها كقوة عظمى تحاول فرض نظام عالمي جديد يعزز مصالحها على حساب القوى الصاعدة في العالم وممارستها دور شرطي العالم الفاسد الذي يستقوي بقدرته العسكرية والاقتصادية على بلاد العالم الأخرى.. إلى آخر كل الاتهامات المعروفة.
فإذا جاء لأمريكا رئيس يتبنّى سياسات انعزالية تؤدي إلى تراجع دورها المهيمن في العالم ويضعف عملتها التي تسود النظام المالي العالمي وتضر بمصالح الآخرين ويفاقم مشاكل أكبر اقتصاد في العالم ويثير موجة عداء لأمريكا غير مسبوقة حتى بين الحلفاء والشركاء في الغرب وغيره، لماذا يغضب هؤلاء. أليس هذا ما كنتم تبغون!
سياسة التعريفة الجمركية ومعاقبة شركاء أمريكا التجاريين لأنهم يحققون فائضاً من التجارة معها على حساب عجز تجاري أمريكي يعكس ضعف الولايات المتحدة وليس قوتها الاقتصادية. فالعجز التجاري يعني ببساطة أن الأمريكيين يستهلكون أكثر مما ينتجون، وليس لديهم ما يصدرونه بكثافة ويحتاج إليه العالم بالقدر الذي يصدره العالم لهم. وقرارات الرئيس، المعني أساساً بالمال ولا شيء غيره، تحاول فرض علاقات تجارية على غير أسس العرض والطلب وإنما بقوة العقاب خارج قواعد السوق. فمن يمتثل لضغطه يستحق أو أنه يرى في ذلك فرصة لحماية مصالحه أكبر من احتمال خسارة السوق الأمريكي. ومن لا يمتثل ويعامله بالمثل، كما تفعل الصين حتى الآن، فليتحمل نتيجة ذلك أملاً في تراجع السطوة الامريكية ولو بعد حين.
تشدد الإدارة الأمريكية قواعد الهجرة والسفر إليها، وهذا حق سيادي لأي بلد يرى في ذلك مصلحة لأمنه القومي. ونعلم أنه في الغرب كله منذ فترة؛ لم تعد معايير مثل «حقوق الإنسان» أو «الأعراف الدولية» ذات أهمية حين يتعلق الأمر بما يوصف أنه أمن قومي – بغض النظر عن مدى صحة أن للأمر علاقة بالأمن القومي أم لا.
في النهاية، هذا بلد يتصرف في حدوده وقواعد الإقامة فيه بما يراه لمصلحته. وإذا كان ذلك سيضر بعائدات السياحة فيه، أو عائدات دراسة الطلاب الأجانب بجامعاته أو علاج الأجانب بمستشفياته، فذلك ضرر يعود على الأمريكيين. أما السائحون والطلاب والمرضى الزائرون فأمامهم وجهات أخرى بعضها أفضل كثيراً حتى من الولايات المتحدة وتستحق أن ينفقوا أموالهم فيها بحق.
أما تراجع الإدارة الأمريكية عن التزاماتها تجاه حلفائها، سواء أوروبا الغربية ضمن حلف الناتو أو غيرها؛ فهذا أمر يخص الغرب الذي «تقوده» أمريكا ولا يخص الآخرين حول العالم. بل على العكس، قد يكون ذلك بداية تحالفات جديدة وصعود قوى أخرى إقليمية وعابرة للأقاليم بما يجعل النظام الدولي أكثر توازناً لصالح الدول النامية والصاعدة.
من الطبيعي أن تكون تعليقات وآراء كتّاب ومفكرين أمريكيين ناقدة وناقمة على تراجع الدور الأمريكـــي عالميـــاً وعلـــى تصرفات تضعف اقتصادها وتنال من مكانتها كأكبر اقتصاد في العالم وتعني تدهور وضع الدولار كعماد للنظام المالي العالمي.
هل أصبح الكل فجأة مستثمراً في السوق الأمريكية ويخشى اضطرابها فيخسر الملايين أو المليارات؟ هل يملك الجميع كميات هائلة من سندات الخزانة – الدين السيادي – الأمريكية ويزعجه أن تؤدي سياسات ترامب إلى تدهور سوق السندات؟ هل يريد الجميع السفر للسياحة في أمريكا، مع كلفتها الباهظة مقارنة مع طبيعة مماثلة في كندا أقل كلفة أو في أوروبا وغيرها؟ لا أعتقد!
إنما هو الخوف من انهيار ما نعرفه والانفتاح على مجهول لا نعرفه. وإذا كان الإنسان العادي غالباً ما يخشى ما لا يعرف فيقنع بما يعرف حتى لو لم يكن هو الأمثل، فإن الكتّاب والمفكرين يفترض أنهم ليسوا كذلك. بل إن تلك النخب، حسب الحكمة التقليدية، هي التي تقود طريق التغيير نحو الأفضل وتستشرف التطور المستقبلي.
من الواضح أن الفارق بين النخب وعامة الجماهير يتلاشى، وتقترب تلك التي كانت تعرف بأنها «مرجعيات فكرية» من الناس العادية. فالكل يهاب ما قد يحدث إذا تدهورت مكانة أمريكا العالمية، رغم أن الأغلبية تشكو من تلك المكانة بل ويعتبرها البعض «إمبريالية جديدة» تحمل إرث الاستعمار والإمبراطوريات الأوروبية المنهارة.
من دون الدخول في تحليلات «معمقة» وتوقّعات بسيناريوهات محتملة، يمكن القول باطمئنان نسبي إن أمريكا لن تنهار كما يتصور البعض، هلعاً أو تمنياً. حتى تراجع دورها العالمي وانطفائها على ذاتها وما قد ينتج عن السياسات الحالية من تطورات اقتصادية سلبية لن تؤدي إلى اختفاء دور القوة العظمى المتفردة في العالم. قد تضعف هيمنتها وقد تفقد بعضاً من سطوتها، لكنها لن تضمحلّ وتنتهي مثلما حدث مع الإمبراطوريات العظمى قبل ثلاثة أرباع القرن. وليس السبب الوحيد هو قوة أمريكا العسكرية والاقتصادية وهيمنتها على النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة، ولكن لأنه ليس هناك بعد بديل يملأ ذلك الفراغ. كما أن العالم في وضع من «الميوعة» والاضطراب بما لا يسمح ببروز قوة بديلة تستولي على مقعد القيادة بعد.

[email protected]

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"