أمريكا وإيران.. والأزمات المنتظِمة

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي*

منذ الإطاحة بنظام الشاه في إيران عام 1979 وتحول البلاد إلى جمهورية إسلامية، دخلت العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران مرحلة معقدة من التوتر والعداء المعلن. غير أن هذه العلاقة لم تكن يوماً محكومة فقط بمنطق القطيعة، بل استندت إلى ديناميات تخادم غير مباشر وتحالفات ظرفية عبر وسطاء إقليميين ودوليين، ما يجعلها واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً في الشرق الأوسط المعاصر. ومن المهم فهم أن هذه العلاقة لا يمكن اختزالها في ثنائية «الصداقة والعداء»، بل يجب تحليلها وفق منطق الواقعية السياسية، الذي يوازن بين الطموح للهيمنة والاعتراف بقوة الطرف الآخر وضرورته في معادلة الإقليم.
عززت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة، وجودها في منطقة الخليج العربي كمركز نفوذ استراتيجي هدفه ضبط توازن القوى ومنع صعود قوة إقليمية قد تخلخل منظومة الهيمنة الغربية. وفي هذا السياق، شكّلت إيران بعد ثورة 1979 تهديداً مزدوجاً: أيديولوجياً عبر تصدير الثورة، واستراتيجياً عبر دعم فصائل مسلحة وفرض نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومع ذلك، فإن واشنطن، رغم مواقفها العدائية، لم تسعَ يوماً إلى حرب شاملة مع طهران، بل مارست سياسة الردع والاحتواء والتفاوض المتقطع، وهو ما تجلّى في الاتفاق النووي لعام 2015، الذي وقّعته إدارة أوباما واعتُبر لحظة استثنائية في مسار العلاقة، ثم انسحبت منه إدارة ترامب، لتعود التوترات من جديد.
اللافت في هذا السياق أن الأزمات المتكررة بين الطرفين غالباً ما تُدار ضمن حدود معيّنة لا تصل إلى الانفجار الشامل، ما يعكس نوعاً من «الاحترام المتبادل للخطوط الحُمر». فإيران، رغم عدائها اللفظي لأمريكا، لم توقف تعاونها غير المباشر في الحرب على تنظيم «داعش» في العراق، كما أن الولايات المتحدة لم تعرقل تماماً النفوذ الإيراني في بغداد ودمشق، بل سمحت له بالتوسع أحياناً في إطار لعبة التوازن الكبرى ضد قوى إقليمية أخرى كتركيا والسعودية.
هذا التخادم غير المعلن يبدو أكثر وضوحاً عند مراقبة الأداء الإيراني في أزمات مثل العراق بعد 2003، أو حتى في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية، إذ برزت طهران كقوة منضبطة ضمن نظام الهيمنة لا خارجة عنه. كما أن الاغتيال الأمريكي لقاسم سليماني عام 2020 لم يُفضِ إلى حرب شاملة، بل إلى توازن ردعي جديد أعاد ضبط قواعد الاشتباك بين الطرفين.
يُفهم من ذلك أن منطق العلاقة لا يقوم فقط على الصراع، بل على إدراك كل طرف لحجم تأثير الآخر وضرورته في هندسة المشهد الإقليمي. فبينما ترى أمريكا أن إيران قوة لا يمكن تجاوزها في ملفات الشرق الأوسط، ترى طهران في واشنطن القوة المهيمنة التي لا يمكن مواجهتها مباشرة من دون كُلفة وجودية.
وخاتمة القول أن هذا التوازن المعقّد، الذي يجمع بين الردع والتخادم، يجعل العلاقة بين أمريكا وإيران علاقة أزمات منتظمة لا تنفجر تماماً ولا تنكفئ نهائياً. إنها علاقة تتغذى من الواقعية السياسية ومن منطق تقاسم النفوذ، لا من وهم الانتصار الكامل. وإن كانت الغلبة الأمريكية قائمة من حيث النفوذ العسكري والاقتصادي، إلا أن إيران برهنت على قدرتها في الاستمرار كقوة مزعزعة للحسم الأمريكي الكامل، ما يفرض واقعية جديدة على طموح الهيمنة لدى الطرفين.

* باحث في الشؤون الأمنية

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"