ماذا يفعل المرء حين يكون الموضوع شائكاً بأيّ شكل؟ بسيطة: يلجأ إلى العبارة التي صارت رائجةً في التسويق التجاري: الإبداع في التغليف. القضية أكبر بكثير، لهذا وصفها القلم أمس بأنها الأشدّ إثارةً. مشكلتنا التاريخية والمعاصرة في العالم العربي، هي حرّيات الفكر والرأي والتعبير. أوج المأساة العربية، ليست مأساة الحلاّج فقط، بل مأساة الحسين بن منصور وابن رشد، أي تراجيديا التصوف والفلسفة. بكلمة موجزة: هنا تكمن جذور الكثير من العلل التي حالت دون استئناف الحضارة.
صحيح أنه كانت في ماضينا صور من تضييق الخناق على تلك الحريات. «إخوان الصفا»، اضطرّوا إلى التخفّي وراء الاسم المستعار، أبو العلاء، رموه بالزندقة، وغير هؤلاء. المتصوفون عرفوا المقاصب والمقاصل: الحلاج قطعوا رأسه، والسهروردي قيل مات تجويعاً، وقيل بالحسام. أهمّ فيلسوف في تاريخنا، ابن رشد، رموه بالزندقة وحتى بالكفر، وأحرقوا عدداً من كتبه، ولحسن حظّه لم يَلْقَ نهاية جان دارك. منذ آخر القرن الثاني عشر الميلادي، لم يعرف العرب فيلسوفاً، لا من طراز أبي الوليد ولا حتى نسخةً افتراضيةً أو هولوغراماً. ألا يُذهلك أن عملاق التصوف في تاريخنا محيي الدين بن عربي، يُمنع تدريسه في بلدان عربية، بينما تتجلى أعماله في مناهج جامعات عالمية شتى، ولعدد كبير من المستشرقين مؤلفات كثيرة في حياته وآفاق عرفانه؟ أليس خليقاً بصروح الفخار الرجلُ الذي من أهمّ مراكز جاذبية عرفانه وفلسفته، الإنسان الكامل؟ يعني السوبرمان من منظار إسلامي. سوبرمان الفيلسوف الألماني، فريديريك نيتشه، عكف اليابانيون على دراسة نظريته السوبرمانية في أكثر من ثلاثمئة كتاب.
القضية شائكة، لأنها ملفّ لمساءلة العقل العربي. كنّا نظن أنه ليس عسيراً إدراك العلاقة التسلسلية بين الفلسفة، بوصفها أمّ العلوم، وبين العلوم، ثم الرابطة العضوية بين العلوم والتنمية. تعالوا، أقيموا مؤتمراً يجمع نخباً من كبار المفكرين والمثقفين والعلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والذكاء الاصطناعي، ليبحثوا ويتدارسوا بشفافية، أسباب تعذّر النهضة العربية الشاملة طوال التاريخ الحديث، في القرون الثلاثة الأخيرة. فرنسا نفوسها سدس عدد العرب، لديها قرابة ستمئة فيلسوف أحياء في مجالات شتى. على صلة بأمّ العلوم: كم عدد المجلاّت العلمية العربية؟ بالتالي، ما علّة ندرة مراكز البحث العلمي وغياب دور العلماء في الحياة العامة، وغلبة التنميات المتعثرة، بالرغم من وجود التجربة العربية المتفوّقة عالميّاً بتنمية شاملة رائدة؟
لزوم ما يلزم: النتيجة البنيوية: لا تتحقق النهضة التنموية إلاّ بتكامل إبداعات العقل والروح والذوق، الفلسفة والعلوم والتصوف والفنون.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







