الاقتصاد الاجتماعي في الإمارات

00:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

جابر محمد الشعيبي*

مع إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عام 2025 عاماً للمجتمع، تتجه دولة الإمارات نحو مرحلة تنموية محورها الإنسان، يكون فيها تماسك المجتمع وتلاحمه جزءاً من معادلة التنمية الاقتصادية المستدامة وفي هذا السياق يبرز مفهوم «الاقتصاد الاجتماعي» كأحد أهم أدوات إعادة التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، يُعد الاقتصاد الاجتماعي نموذجاً تنموياً يدمج بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، من خلال دعم المؤسسات غير الربحية والمشاريع ذات الطابع المجتمعي والتعاوني، بما يسهم في زيادة العدالة وزيادة التماسك الاجتماعي، وتوسيع فرص الشمول الاقتصادي وقد بدأت الإمارات بتفعيل هذا المفهوم من خلال سياسات تمكين المرأة ودعم الأسر المنتجة وتشجيع ريادة الأعمال الاجتماعية وتوسيع مشاركة القطاع الخاص في تنمية المجتمعات.
وقد حققت الإمارات خطوات ملموسة نحو تعزيز هذا النموذج، فقد شهدت البيئة الاقتصادية إطلاق مبادرات رائدة، من أبرزها المنصة الوطنية للتطوع ومؤسسة الإمارات لتنمية الشباب وصندوق الاستثمار المجتمعي، كما أظهرت إحصاءات وزارة تمكين المجتمع أن عدد المؤسسات ذات النفع العام في الدولة ارتفع إلى 260 مؤسسة في عام 2023، ما يعكس الحراك الثقافي والاجتماعي والإنساني في الدولة ويُعد هذا النمو مؤشراً واضحاً على توجّه الدولة نحو بناء مجتمع فاعل، يتكامل فيه دور الأفراد والمؤسسات مع جهود الدولة في رسم مستقبل تنموي متوازن.
يمتاز الاقتصاد الاجتماعي بكونه نموذجاً مكملاً لاقتصاد السوق، يهدف إلى تصحيح اختلالات السوق من خلال تمكين الفئات الأقل حظاً وتحفيز المبادرات المحلية وتعزيز ثقافة التكافل والتعاون وفي الإمارات، تلعب المؤسسات العائلية والتطوعية دوراً متزايداً في معالجة القضايا المجتمعية، مثل التمكين الاقتصادي للمرأة ورعاية أصحاب الهمم ودعم كبار السن، ما يجعلها شريكاً أصيلاً في تحقيق مستهدفات التنمية الشاملة، كما تشير بيانات رسمية إلى أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تسهم بنسبة 63.5% من الناتج المحلي غير النفطي للدولة، ما يعكس أهمية إدماج الطاقات المحلية والمجتمعية في مسيرة النمو الوطني. وتعكس هذه النسبة المرتفعة مدى نجاح الإمارات في تحفيز بيئة ريادية اجتماعية حاضنة للمواهب والمبادرات المجتمعية، خصوصاً من فئة الشباب والنساء.
لكن رغم هذه النجاحات، تبرز تحديات ديموغرافية تستدعي استجابة ذكية، فقد انخفض معدل الخصوبة في الإمارات بشكل ملحوظ خلال العقود الماضية، حيث أظهر تقرير الخصوبة العالمي لعام 2024 أن معدل الخصوبة الكلي في الدولة بلغ 1.21 ولادة حية لكل امرأة وهو أقل من معدل الإحلال السكاني البالغ 2.1 طفل لكل امرأة ويُعزى هذا الانخفاض إلى عوامل متعددة، منها ارتفاع تكاليف المعيشة وتأخر سن الزواج وانضمام النساء إلى سوق العمل، ما يؤثر على قرارات تكوين الأسرة، لذلك فإن تعزيز الاقتصاد الاجتماعي يجب أن يرتبط بسياسات داعمة للزواج المبكر وتسهيل تكاليف المعيشة وبناء أسر مستقرة من خلال شراكة مع القطاع الخاص، أن تطلق برامج إسكان ميسرة وحوافز مالية للأزواج الشباب ورعاية موسعة للأطفال، ما يسهم في زيادة معدلات الزواج والمواليد.​
ويُعد التوازن بين العمل والحياة أحد عوامل جودة الحياة في استدامة التماسك الأسري، فمع تزايد الضغوط المهنية وارتفاع ساعات العمل، تظهر الحاجة إلى مراجعة سياسات مرنة تمكّن الأمهات والآباء من التوفيق بين مسؤولياتهم الوظيفية والأسرية، سواء ساعات العمل الجزئي، أو الإجازات المدفوعة لدواعي الأسرة، أو زيادة راتب الرعاية لكل طفل بما يحقق بيئة صحية داعمة للأسرة والإنتاجية معاً.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية توحيد نظام الضمان الاجتماعي على المستوى الوطني، أسوة ببعض الدول التي تبنت أنظمة شاملة تدمج الرعاية الاجتماعية والتقاعد والدعم الأسري تحت مظلة واحدة. إن التعدد في البرامج بين الجهات الاتحادية والمحلية قد يفرز تفاوتاً نسبياً في كفاءة التوزيع، ما يجعل التوحيد فرصة استراتيجية لتبسيط الإجراءات ورفع كفاءة الإنفاق العام، كما أن إنشاء منصة رقمية موحدة للضمان الاجتماعي يمكن أن يسهم في تحقيق تكامل بين قواعد البيانات الحكومية وتقديم خدمات تستجيب بفعالية للاحتياجات الفعلية للأسر.
ولضمان استمرارية الاقتصاد الاجتماعي كرافعة تنموية، يمكن اقتراح مجموعة من المبادرات أبرزها إصدار قانون وطني للاقتصاد الاجتماعي يوفر حوافز استثمارية وضريبية للمشاريع ذات الأثر المجتمعي وإنشاء صناديق تمويل مخصصة تدعم النمو المستدام لرواد الأعمال الاجتماعيين في هذا القطاع. ومن المهم أيضاً مواءمة السياسات السكانية والتخطيط الحضري مع التطورات الاقتصادية بهدف تعزيز جودة الحياة. بالإضافة إلى توحيد جهود الضمان الاجتماعي ضمن منصة وطنية متكاملة وبناء آليات دقيقة لقياس الأثر المجتمعي حيث لا يكتمل النجاح في «عام المجتمع» إلا بقياس مدى الأثر الذي تتركه في جودة حياة الناس، وليس فقط بمعدلات النمو. إن اقتصاداً لا يُسند مجتمعه، ولا يُشركه في مسيرته، يظل محدوداً مهما بلغت أرقامه.
في الختام، فإن إعلان عام 2025 عاماً للمجتمع ليس مجرد شعار رمزي، بل هو دعوة استراتيجية لزيادة التلاحم المجتمعي وإنتاجيته، على أسس جديدة يكون فيها الإنسان هو الهدف والوسيلة في آنٍ واحد يسعى إلى التنمية الشاملة بالتوازي مع جهود الدولة، فكلما تعززت مساهمة المجتمع في الاقتصاد، كلما أصبح هذا الاقتصاد أكثر عدالة وتوازناً واستدامة، الإمارات اليوم تعتبر فرصة تاريخية تصدر نموذجاً فريداً في الاقتصاد الاجتماعي وتلهم دولاً أخرى في المنطقة والعالم.

* كاتب وباحث

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"