رائد برقاوي *
الثقافة في الشارقة مثل الماء والهواء. تلك حقيقة باتت واضحة لكل متابع، فلا يمر يوم إلا ونحن على موعد مع حدث أو نشاط ثقافي، بكل ما يؤشر إليه ذلك من تحول لافت في مراكز الثقافة العربية. فخلال سنوات قليلة تحولت الشارقة إلى أحد أبرز مراكز الثقل الثقافي في المنطقة والعالم، وذلك بفضل رؤية رجل يؤمن بأن لا راهن أو مستقبل للعرب من دون الثقافة، وبأن ما يميزنا ويكسبنا وجوداً حضارياً مميزاً في العالم يتمثل في ما يمكن أن نقدمه للآخرين من منتج يتحدث عن عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الأخلاقية والروحية، ويؤمن أيضاً بأن الثقافة حصن العرب الأساسي، تجمع بينهم وتدعم الوشائج التي تربطهم، ومن خلالها وحدها بإمكانهم أن يستعيدوا مكانتهم في العالم. إنها القوة الناعمة الإماراتية التي تترك الأثر تلو الأثر عند الآخر.
المتأمل لعشق صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة للثقافة، يشعر بأن سموه يتنفس ثقافة، يعيش لها ومن أجلها، يبذل في سبيلها الجهد كله، والطاقة كلها، يدعمها بكافة الصور والسبل، يكرس حياته لها، تأليفاً وتخطيطاً وتفكيراً، فهنا تراه يفتتح هذا المعرض، أو يدلي برأي موزون في إحدى وسائل الإعلام، أو يصل بفكرة ما إلى الجمهور عبر كتاب أو مسرحية، وفي كل هذا النشاط هناك رؤية باتساع العالم في الخلفية، تنطلق من الوطني مروراً بالقومي وليس انتهاء باستيعاب مختلف القيم الإنسانية.
ومن ضمن مكونات هذه الرؤية اهتمام سموه بمنطقة الخليج، ومن خلال عدة مؤلفات دارت حول الخليج العربي أو بلدانه يتضح الهدف، فسموه يرى أن تاريخ هذه المنطقة لم يكتب بعد، ولا يزال في حاجة إلى جهود مئات الباحثين حتى ندرك المراحل المختلفة التي مرت بها هذه المنطقة العزيزة. من هنا لا نملك إلا أن نعجب بتوجه سموه إلى إصدار موسوعة عن البرتغاليين في بحر عمان، ويعقب الإعجاب الدهشة، فالموسوعة تقع في 21 مجلداً باللغة العربية ومثلها بالإنجليزية، ويتراوح حجم المجلد بين 400 إلى 600 صفحة ويحتوي على وثائق وحوليات ويضيء على أكثر من قرنين.
كثيرة هي الدروس الثقافية التي بالإمكان تعلمها من صاحب السمو حاكم الشارقة، دروس ترتبط بالرؤية والدور والتوجه والبوصلة والعمل المنظم الذي استمر أكثر من خمسة عقود، بل والمشاركة الشخصية في الفعاليات الثقافية المختلفة، كما يحدث اليوم في معرض مسقط الدولي للكتاب، والذي يحتفي بالموسوعة سابقة الذكر، والأهم أنه بات ككل مراكز الثقافة العربية يحتفي بسلطان والدنا، ووالد كل المثقفين العرب.
لا نهاية لملحمة الثقافة في الشارقة، فها هي إمارتنا هذه الأيام تحلق بجناحين، الأول في عمان على ضفاف الخليج العربي، والثاني في الرباط على ساحل المحيط، هي الرؤية عندما تكون باتساع العالم العربي بأكمله، فكما تحتفي مسقط بسلطان، فإن المغرب تفتح ذراعيها للشارقة ضيف شرف معرض الرباط للكتاب، وبين المكانين آلاف الأميال، ولكن الثقافة وحدها كما تقرب بين البشر فإنها تختصر المسافات ولا تعترف بالحدود أو الحواجز، وكما ترجم صاحب السمو حاكم الشارقة أحلامه للعرب في مشروعات ومنجزات ثقافية، فإن الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب تمثل غرس سلطان الأول والأهم، فها هي الثقافة تنتقل إلى الجيل الثاني، والمسيرة تتواصل على الوجه الأكمل، وها هي الشجرة تثمر روحاً جديدة تستطيع مواصلة الرحلة، وبإمكانها حمل المشعل ومواصلة الدرب والقول للجميع إن الثقافة في الشارقة مؤسسة متعددة الأجيال متشعبة الاهتمامات، فالبوصلة هي الإنسان، وكل ما يشكل وجدانه وينير عقله ويحول حياته إلى الأفضل.
هذه المعاني كلها أكدت عليها الشيخة بدور في كلمة ألقتها في افتتاح معرض الرباط، فهناك تاريخ طويل وممتد يربط الإمارات بالمغرب، تاريخ نرى في إحدى مراحله أثر ابن بطوطة، وفي مرحلة أخرى نتلمس قبساً من جامعة القرويين، وفي لحظة ثالثة تطالعنا منجزات الإدريسي الجغرافية..إلخ، هي الثقافة مرة أخرى عندما تتسع للجميع وتؤاخي بين كل الناس لا تعرف مكاناً تنتهي إليه ولا تتقيد بشروط الزمان، فهي حرة طليقة لا يعيقها أي قيد.
جمعت الشارقة بين المشرق والمغرب، بل تجاوزت محيطها لتصل بالثقافة العربية إلى العالم بأكمله، يشهد على ذلك الاحتفاء بها في معارض كتب وفعاليات عالمية.
أدت الشارقة رسالة الثقافة كما لم يفعل مركز ثقافي عربي من قبل، والأهم أنها حملت تلك الرسالة في زمن يرى الكثيرون فيه أن الثقافة العربية لا تعيش أفضل أحوالها، ولكنها هنا في الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، مصانة ومحلقة وتقول للعرب بأكملهم: أنا بخير وفي أيدٍ أمينة.