محمد خليفة
الحياة رحلة تتفاوت طولاً وقِصراً، ومهما طالت الحياة فالعمر قصير، فكل يغادر هذه الدنيا، والموت هو المصير المحتوم، ومقاييس الحياة تنطلق من النظرة نحوها، وبإنجازات صاحبها، فيبقى حياً في الذاكرة، ومن هؤلاء البابا فرنسيس رئيس دولة الفاتيكان.
لقد فقد العالم قامة من القامات السامقة، رجلاً غنيّاً بالرؤى والمبادئ التي لم يحد عنها حتى أمام الموت. يصعب تعداد مواقف البابا، هذا الرجل الكبير عُرف بحسن الخلق والأخلاق العالية التي كان يتمتع بها لافتة للأنظار، تتجسد في شخصيته كل الخصال المشحونة بالنبل والمفعمة بالعطاء، وهو يتمتع بحاسة سامية نحو التعامل مع مختلف طوائف ومعتقدات البشر على اختلاف اتجاهاتهم، كان متواضعاً رغم شهرته العالمية، عطوفاً على الجميع. البابا فرنسيس رئيس الكنيسة الكاثوليكية كان صوتاً سامياً يدعو للسلام ويقف بجانب الضعفاء ودعاء جميع شعوب العالم إلى المحبة. ترك في نفوسنا كإماراتيين أثراً طيباً عن الحب والرحمة والتسامح.
وفي الواقع تمثل الكنيسة الكاثوليكية أجمل لوحات الفن البشري، لكونها لا تزال قائمة بأكليروسها وتراتبيتها منذ نحو ألفي عام، وظلت لألف سنة تحكم غرب أوروبا، وحتى عندما انتهى حكمها الدنيوي في أوروبا، بقي لها دولتها المستقلة في مدينة روما، والتي من خلالها توجّه مريدوها الذين يبلغون أكثر من مليار مؤمن في مختلف مناطق العالم، كما أنها تدعو بشكل مستمر إلى الحب وتعمل على نشر السلام والإخاء بين شعوب العالم.
وقد ارتبطت دولة الإمارات بعلاقات دبلوماسية مع دولة الكرسي الرسولي – الفاتيكان عام 2007. حيث افتتح رئيس الأساقفة نيافة إدغار بينيا بارا نائب الشؤون العامة لأمانة الدولة ونائب وزير خارجية دولة الفاتيكان مقر سفارة بلاده في أبوظبي. وفي كلمة له بهذه المناسبة قال رئيس الأساقفة «بارا»: إن افتتاح سفارة دولة الفاتيكان في أبوظبي هو «دليل على عمق العلاقات بين البلدين الصديقين». كما لدى دولة الإمارات العربية المتحدة وجود دبلوماسي متخصص لدى الكرسي الرسولي - دولة الفاتيكان، يتمثل بشكل رئيسي في سفارتها. وتلعب هذه البعثة دوراً مهمّاً في تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون في مختلف القضايا، بما في ذلك الحوار الثقافي والجهود الإنسانية.
وفي عام 2016 قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بزيارة تاريخية إلى دولة الفاتيكان، حيث التقى البابا الراحل فرنسيس. وجسّدت تلك الزيارة دور سموه المميز، ليس فقط في تحقيق النهضة الشاملة والناجحة في كافة ربوع الوطن، بل أيضاً في سعيه المخلص والتزامه القوي بتحقيق السلام والتعايش والاستقرار في مختلف أنحاء العالم. كما أبرزت تلك الزيارة دور دولة الإمارات في تعميق مبادئ الحوار والتعايش بين أهل الديانات والثقافات في العالم.
وكان واضحاً أن الفاتيكان والبابا فرانسيس خاصة يشاركان الإمارات هذه النظرة، بحيث تكون الديانات قوة دفع إيجابية في حياة البشر تسهم في حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في العالم، وليس في تأجيج نار الخلافات والحروب. وقد تبادل صاحب السمو رئيس الدولة مع البابا الراحل هدايا تذكارية، حيث قدم سموه للبابا الراحل هدية عبارة عن كتاب يوثق الاكتشافات الأثرية في جزيرة صير بني ياس والتي أسسها الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كمحمية طبيعية عام 1977. كما أهدى سموه للبابا الراحل سجادة السلام، وهي نتاج مشروع الشيخة فاطمة بنت محمد بن زايد لإنتاج السجاد وتطوير الريف الأفغاني، والذي يهدف لدعم وتشجيع المرأة الأفغانية في الانخراط في العمل والإنتاج.
وفي عام 2019 قام البابا الراحل فرنسيس بزيارة إلى دولة الإمارات، وأشاد، خلالها، بجهود دولة الإمارات العربية المتحدة في تعزيز التعايش بين الثقافات المختلفة. كما أشاد بالمبادرات الإنسانية والخيرية التي أطلقتها الدولة، والتي تركز على التعليم والرعاية الصحية والتنمية المستدامة. وأظهرت تلك الزيارة الأهمية الكبيرة التي كان يعطيها البابا الراحل لدولة الإمارات، نظراً لما تمثله من مركز عالمي للوسطية والاعتدال. وقد شارك قداسة البابا في اجتماع «لقاء الأخوّة الإنسانية» الذي استضافته أبوظبي بحضور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، بالإضافة إلى رجال وعلماء دين من مختلف الديانات والطوائف، وتم التوقيع على «وثيقة الأخوّة الإنسانية»، التي تمثّل «إعلاناً مشتركاً عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيماناً بالله وبالأخوّة الإنسانية أن يتوحدوا ويعملوا معاً من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلاً للأجيال القادمة، يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل في جو من إدراك النعمة الإلهية الكبرى التي جعلت الخلق كلهم إخوة».
وتمتلك دولة الإمارات تاريخاً عريقاً في التعايش بين الديانات وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فقد تأسست أول كنيسة كاثوليكية في الدولة في أبوظبي عام 1965، ويوجد في دولة الإمارات حاليا 76 كنيسة، ودار عبادة للديانات والعقائد المختلفة، بعضها أقيمت على أراضٍ تبرعت بها الدولة تسهيلاً لإقامتها، وتأسست أول جمعية مسيحية بدولة الإمارات في العام 1968، وفي يونيو(حزيران) من العام 2017، أعادت أبوظبي تسمية أحد أشهر مساجدها ليكون مسجد «مريم أم عيسى».
عاشت الإمارات رمزاً للتسامح والإخاء، وليخلد التاريخ البابا فرنسيس رئيس دولة الفاتيكان رمز الخير والسلام.