د. باسمة يونس
بهذا الشعار النابض بالمعنى وضمن عام يحتفي بالمجتمع بكل شرائحه وفئاته ينطلق معرض أبوظبي الدولي للكتاب، روحا تتجاوز الكتب والمعروضات وتجربة ملهمة تنسج خيوطا من الوعي بمعنى المجتمع والتواصل الإنساني والثقافي.
وتنطلق زيارة المعرض من بوابات الفكر إلى عمق الإنسان، فعند دخولك من أول قاعة لا تنتظر أن تجد الكتب وعارضيها وحدهم من يقفون باستقبالك، بل ستحتفي بك الأرواح الطامحة للمعرفة، وستجد أن كل فرد من أفراد الأسرة لديه زاويته الخاصة، ولكل عين رؤيتها، وما يجمعهم ذلك الإحساس بأنهم وسط حدث يُعيد تعريف علاقتهم بالكتاب وببعضهم بعضا.
سيعثر الأب على ما يبعده عن هموم العمل وسيجد نفسه يتجول بين رفوف الكتب يسترد شغفه الأول بالحياة، فهنا سيتوقف أمام منضدة للحصول على توقيع كاتب وربما يشتري كتابا لطالما أجّل شراءه، لكن الأهم، أنه سيرى في أعين أبنائه وهجا مختلفا ويشعر بأن دوره كقدوة يتعزز هنا، في هذا الفضاء الثقافي الجامع.
وستجد الأم في المعرض امتدادا لصوتها الخاص، سواء أكان في جناح يناقش القضايا التي تهمها أو ضمن ورشة من الورش أو حتى في ركن تهتم معروضاته بتفاصيل الحياة الأسرية. لكنها لا تكتفي بالقراءة أو البحث عن عناوين الكتب، بل تعيش لحظةً نادرة من التلاقي مع أخريات يشاركنها الأفكار والأسئلة، وكأن المعرض يصبح منصة غير مرئية لتعزيز قوة النساء وأصواتهن في الحياة العامة.
ويدخل الطفل إلى المعرض بعينين تلمعان بالدهشة، فهنا مهرجان ألوان تزدهي بها أغلفة الكتب وأصوات تمرح في عروض مسرحية، تثير لهفته للتمتع وحكايات تُروى على خشبة صغيرة، وركن للرسم وورق ملون. هنا، يكتشف الطفل أن الكتاب ليس عبئا مدرسيا، بل نافذة مُدهشة على عوالم لا تنتهي. يُصادق الحكاية، ويضحك مع الشخصية ويخرج من المعرض وقد أحب القراءة من دون أن يُطلب منه.
أما الشباب فيعثرون في المعرض على إجابات عن اسئلتهم التي قد لا يفهمها الآخرون بسهولة ضمن فعالية حوارية حول قضايا الشباب، وهنا يشعر الشاب بأنه مسموع فينصت إلى من يحاور أفكاره ويحول اهتماماته إلى عناوين. وربما لأول مرة، يرى في الكتاب جزءا من هويته، لا مجرد متطلب مدرسي.
هذا التنوع في تجربة أفراد الأسرة يخلق توازيا ثريا يربطهم جميعا بلحظة واحدة من التلاقي وفي مكان يسعى لمثل هذا اللقاء الذي يتبادلون فيه الرأي حول الكتب التي أعجبتهم وقد يلتقطون صورة جماعية أمام جناح ضيف المعرض أو يدور بينهم نقاش عفوي حول كتاب أثار الجدل. إنها لحظات إنسانية صغيرة لكنها تصنع رابطا لا يُنسى، ويحول الزيارة إلى ذكرى عائلية سنوية.
وينجح المعرض في إعادة تشكيل علاقة الإنسان بالمجتمع والكتاب لأن رسالته التي تركز على إيصال المعرفة ستخلق شعورا جمعيا بأن الثقافة حق للجميع، وبأن الفكرة يمكن أن تكون نقطة لقاء بين أناس لا يعرفون بعضهم، فالأطفال يلتقون معا والكبار يتحاورون في ركن ثقافي، والأسر تتبادل النصائح حول الكتب والفعاليات.
كل ركن في المعرض، وكل صفحة تُقلب، هي دعوة لصناعة مجتمع متماسك، يعرف نفسه من خلال ثقافته ويتقارب رغم اختلافاته عبر اللغة المشتركة للمعرفة. وهكذا يتحقق شعار «مجتمع المعرفة... معرفة المجتمع»، لا كشعار تسويقي، بل كحقيقة نعيشها لحظة بلحظة، ونحن نخطو بين الممرات الطويلة الممتلئة بأرواح يقودها الفضول للمعرفة.
إن معرض أبوظبي للكتاب، بهذا المعنى، ليس معرضا فقط، بل مساحة مفتوحة لإعادة تعريف الأسرة والمجتمع، والذات، من خلال كتاب وندوة ولقاء وحوار.
[email protected]