حقائبيون

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

كان صحفيّو الثمانينات يطلقون على شارع الحمراء في بيروت حيّ الحقائب والشعراء والمقاهي. وفي كل مدن العالم تقريباً لا توجد مقاهٍ إذا لم يكن فيها الشعراء يومياً بانتظام، والبعض يأتي إلى المقهى في الصباح، وقد يظل فيه حتى الليل، فيما لا يفعل الروائيون ذلك أبداً. الروائيون أقرب إلى البيت والعائلة، وأكثر انتظاماً في العمل والحياة، لكن هذا الانتظام ليس قاعدة، فقد كان مؤنس الرزاز يعيش حياة المقهى والأصدقاء والهواء الطلق، لكنه لم يكن يحمل حقيبة.
إذاً، الحقائب، وما أكثرها على أكتاف الشعراء في شارع الحمراء، وفي شارع المتنبي في بغداد، وفي مقهى ريش في القاهرة، وفي وسط البلد في عمّان، وفي مقهى الهاڤانا في دمشق، حقائب وشعراء.
عرفت محمد القيسي في العام ١٩٨٢ في عمّان، ولازمت حياته ويومياته (يومياً) في الوقت الذي أمضيه في العاصمة الأردنية، وكانت في الثمانينات والتسعينات مدينة شعراء أكثر مما هي مدينة روائيين، وجاء إليها من بغداد شعراء عراقيون «حقائبيون» أيضاً، لتمتلئ عمان بالحقائب والشعراء.
«الحقائبيون»، إذا جاز الوصف أو جاز التعبير، كانوا إحدى صور المدن ومقاهيها، ومن «الحقائبيين» أيضاً رسّامون، ومسرحيون، لكن من النادر جداً أن ترى ناقداً أدبياً يحمل حقيبة على كتفه في مقهى أو في أي مكان يذهب إليه.
وبالطبع، ليس كل الشعراء «حقائبيين»، ولم أرَ عبدالوهاب البياتي يحمل حقيبة، ولم يكن محمود درويش حقائبياً إلّا في مقطع صغير من إحدى قصائده حين قال:«وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافر»، وهو قال «مسافر» لضرورة الوزن الشعري، لأنه لو قال «لست مسافراً» لانكسرت تفعيلة بحر الرمل.
كان عبداللطيف عقل شاعراً حقائبياً، ويرتدي الأسود دائماً، وفوق رأسه إكليل طبيعي من شعره الأشيب الأبيض، فبعض الشيب ليس أبيض، إذا لم يشب قلب الإنسان، ولم تشب روحه.
الكثير من الشعراء العرب الكبار لا يحملون حقائب. أدونيس ليس حقائبياً، وكذلك أحمد عبدالمعطي حجازي، ولم أرَ الجواهري يحمل حقيبة، والمتنبي لم يكن يحمل حقيبة، بل كان سيفاً ورمحاً وقرطاساً وقلماً، وهي الأربعة تلك التي كان يحملها، ولم تحمله أو تتحمّله، فقد كانت سبباً في مقتله.
ترى، لو كان المتنبي يحمل حقيبة مملوءة بالمال والأموال، أكان يمكن أن يموت هو وابنه وخادمه بتلك الطريقة السوقية الساذجة في البرّ وفي العزلة، ولا أحد معه إلّا حصانه؟ ماذا يوجد أخي العزيز في حقائب الشعراء الأرجح أن فيها أقلاماً، وورق الكتابة، ومحبرة، أو كتاباً صغيراً يُقرأ في الطريق أو في المقهى، والأرجح أيضاً أن حقائب من هذا النوع هي ليست سوى حقائب للدموع الجافة على الجلد، جلد الحقيبة الصغير، جلد الكتابة.
اكتب، واكتب، واكتب، واحمل حقيبة دموعك على كتفك، وامض إلى الحب والحياة والليل والخيل.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"