الشارقة: علاء الدين محمود
الكثير من الخطاطين العرب والمسلمين برعوا بصورة كبيرة في توظيف خط الثلث الجلي، فهو من أكثر الأقلام المستخدمة في الكتابة وصناعة الأشكال واللوحات الجمالية ذات المعاني السامية، حيث يسافر المشاهد إلى عوالم روحية تحتشد بكل أنواع الدهشة والألق والبهاء والصفاء الروحي. ولكي تكون تلك الرحلة بذلك البهاء فإن الأمر رهين بالخطاط نفسه ومقدرته الإبداعية على توظيف هذا الخط البديع بأسلوب جذاب، فالخطاط ينشد إلى جانب الشكل، المحتوى والمعنى لذلك تراه يجتهد في صناعة لوحة ذات مدلولات فكرية وأبعاد جمالية.
خط الثلث الجلي هو من ضمن الأقلام الأكثر استخداماً وانتشاراً، وهناك الكثير من الخطاطين الذين برعوا في توظيفه، ويتميز ذلك الخط بكونه يكتب واضحاً كبيراً على الجدران والآثار المعمارية، وقد سُمّي بـ«الجلي»، لما في حروفه من سعة على ما تقتضيه الموازين، ووضع الكتابة في مواضعها من واجهات المساجد والقباب والمنارات، ويتميز هذا الخط كذلك على مستوى التركيب وإمكانية التلوين وتنسيق العبارة وجماليتها، ولعل من أبرز سماته أنه يتيح للمشاهد أو المتلقي قراءة اللوحة بسهولة من دون تعقيد كبير، فهو من الخطوط التي تراعي الشروط الجمالية والبصرية لما فيه من توازنات متقنة بين مواضع الحروف وتقاطعاتها والفضاءات البينية، وهذا يوسع دائرة القراءة المتأملة عند المشاهدين، بما يوفره هذا الخط من تكوينات فيها الكثير من الوضوح والانسجام.
*تفكير وتدبر
ومن أبرز الفنانين الذين وظفوا «الثلث الجلي»، الخطاطة الإماراتية فاطمة سالمين، حيث قدمت الكثير من الإبداعات، واخترنا من ضمن أعمالها لوحة تحمل نصاً قرآنياً هو الآية السابعة من صورة المدثر «ولربك فاصبر»، إذ نجحت الفنانة في تضمين اللوحة بالأبعاد الجمالية من خلال تصميم هندسي أنيق، بشكل راعت فيه الابتكار بعيداً عن التقليدية والبناء المكرور، إذ تعاملت بحرية في تكوين العمل، ومنحت الحروف مساحتها مع التقيد في ذات الوقت بقواعد الخط بشكل منضبط، حيث تحيل اللوحة إلى عوالم التجليات الروحية والنورانية، ليجد المتأمل في أعماله فيوضاً من المدد الذي يحرض على التأمل والتفكير والتدبر، حيث تعمل اللوحة على بث الطمأنينة والراحة والألق في نفس المتلقي، وتبعث في ذاته السرور.
*دلالات
النص القرآني في الآية يحمل دلالات الصبر وأهميته في مواجهة الشدائد والصعاب، ويحمل العمل روحية عالية تتسرب إلى نفس المتلقي الذي يجد نفسه محلقاً في عوالم إيمانية، حيث إن المعاني التي يحملها النص هي خير زاد للمرء في مواجهة صعاب الحياة، وعملت الفنانة على أن يأتي التصميم الجمالي منسجماً مع بهاء الآية القرآنية ومضامينها العظيمة.
ملأت سالمين فراغات اللوحة المشعة بالأنوار بتشكيلات مبسطة وإظهار علامات الإعراب، مع توظيف للون الأخضر بدرجات متباينة، وهو اللون يحمل دلالات في الثقافة الإسلامية، مع خلفية واضحة باللون الأصفر من أجل أن يركز المشاهد في اللوحة ويتدبر معانيها العميقة والسامية، ووظفت بإتقان الكثير من خصائص الثلث الجلي مثل إبراز الحروف وميلانها وحركتها من حيث التمدد والالتفاف، وكذلك في تداخلها واشتباكها مع بضعها بعضاً الأمر الذي يصدر للناظر أن اللوحة ممتلئة بالحيوية.
*انسجام
ومن الملاحظ في اللوحة ذلك الانسجام الكبير بين مكوناتها جهة الحروف وكذلك التوزيع اللوني والتعامل مع المساحات مما يعكس التناغم، الأمر الذي شكل قطعة فنية متألقة حيث راعى التصميم أن تأتي اللوحة في كتلة واحدة تسبح في فضاء ممتد بطريقة تحمل دلالات التوحيد والإيمان.
*إضاءة
تعد فاطمة سالمين من أبرز الخطاطات في الدولة، تخرجت في «تقنية الفجيرة العليا للطالبات»، وحصلت على شهادة دبلوم في إدارة الأعمال، وهي عضو في جمعية الإمارات للخط العربي والزخرفة الإسلامية، ومنتسبة في مركز الفنون في دبا الحصن. شارکت في العديد من الفعاليات الثقافية، وحازت جوائز عدة، نذكر منها: جائزة الخطاط الإماراتي في ملتقى الشارقة للخط العربي سنة 2018، والمركز الأول في مسابقة جائزة العويس للإبداع في مجال الخط العربي.