القاهرة: الخليج
في مقدمة كتابه «أصحاب الواحدة.. اليتيمات والمشهورات والمنسيات من الشعر العربي» يتساءل محمد مظلوم: هل ثمة شاعر بقصيدة واحدة؟ بمعنى واحدة لم يكتب غيرها؟ وما أهمية أن يكتب شاعر ما قصيدة تبدو كبيضة الديك في الأساطير والأمثال العربية.
يبدو مصطلح أصحاب الواحدة ملتبساً، فمن حيث المبدأ لا يمكن التسليم بوجود شاعر لم يقل إلا قصيدة واحدة في حياته، فالقصيدة بالمفهوم العربي للقصيدة، حسب معايير النقد العربي القديم، لا يمكن أن يصلها الشاعر إلا بعد تجارب عدة في قول الشعر، وصولاً إلى البناء الكمي الذي يمنح شعره هوية القصيدة.
إضافة إلى ذلك فإن معظم النماذج التي اختيرت في هذا الكتاب لا تعزز المفهوم المباشر، وعلى هذا المبدأ لا تكاد «واحدة» من هذه القصائد الفذة إلا ووجدت من ينتحل منها بيتاً أو بيتين، أو قد تنسب القصيدة برمتها لشعراء آخرين، ويجري تحقيقها في دواوينهم.
حتى أن القصيدة اليتيمة التي يفترض أن شاعرها لم يقل سواها، تنسب في كتب الأدب العربي لعشرات الشعراء من أصحاب الدواوين الضخمة، من هنا فقد لا تقتصر «الواحدة» على أن تكون هوية نهائية لشاعرها، بل إن أغلب القصائد هنا يتنازع عليها شعراء، وتنسب بعضها إلى أكثر من شاعر، وتتداخل فيها الأبيات الأصلية بالأبيات المنحولة.
*فك الالتباس
من هنا – كما يوضح مظلوم – تأتي أهمية فك الالتباس الذي لحق بهذا المفهوم من أجل الدخول إلى مناقشته، بوصفه مصطلحاً، يجري تداوله أحياناً في غير المغزى الذي وضع من أجله في النقد العربي القديم، فمصطلح أصحاب الواحدة هو تعبير نقدي ولد أساساً في سياق تطور النقد العربي القديم في جهوده لإيجاد مفاهيم خاصة يشير بها إلى توصيف نموذج شعري محدد لشاعر ما، اكتملت فيه شروط الجودة والفرادة وميزته عما سواه من نماذج أخرى للشاعر نفسه.
يوضح مظلوم أن هذا المصطلح «أصحاب الواحدة» يعود إلى ابن سلام الجمحي حيث ورد للمرة الأولى في كتابه «طبقات فحول الشعراء» وكان يعني به الشعراء الذين أجادوا في قصيدة واحدة مع أن لهم قصائد أخرى كثيرة أو قليلة، وعلى هذا المعيار الخاص جعل ابن سلام معلقة عنترة بن شداد «واحدته» لأنها نادرة برأيه على الرغم من أن له شعراً كثيراً، كما يقول، وعلى المعيار نفسه رأى أن طرفة بن العبد أشعر الناس بمعلقته الشهيرة بمعنى أن هذه القصيدة إذا ما قورنت بأفضل «واحدة» لأي شاعر آخر غيره، لتقدمت عليها جودة.
ومما يلاحظه مظلوم أن أغلب أصحاب الواحدة ممن جرى اختيار نماذج لهم في الكتاب لم يعمروا كثيراً بعد تلك القصيدة، بل إنها كانت لدى البعض شهادة أخيرة فهي آخر ما تفوه به قبل الموت، وأغلب هؤلاء الشعراء من هوامش الناس فهم خوارج وصعاليك ومتصوفة ولصوص ومجانين ومنفيون وشعراء مغمورون ومغامرون ومنبوذون وعشاق مقهورون ومن عوام الناس في عصرهم.
حتى أشراف القوم منهم فإن «واحدتهم» أو قصائدهم النادرة قيلت في لحظات حرجة من حياتهم، كأنها كانت أغنية البجعة الأخيرة، كما هو الحال في قصيدة لقيط بن يعمر الأيادي، ومالك بن الريب، وعبد يغوث الحارثي وكذلك قصيدة هاشم الرفاعي. من هنا نجد أن أصحاب الواحدة عادة ما تكون ظروف حياتهم التي عاشوها بما تحمله من تراجيديا من موت مبكر ونفي وابتعاد عن ثقافة المركز، هي السمة المميزة التي جعلت من أخبارهم قليلة وأسهمت في ندرة أشعارهم.
*حصار
لعل هذا الحصار المركب الذي اتسمت به حياة هؤلاء هو الذي جعل من قصائدهم نماذج فذة في الحب والحرب والموت ورثاء المدن وفي استبطان الذات ووحشتها وأسئلتها العميقة، وبعد ابن سلام الجمحي بأكثر من قرنين ترسخ مصطلح أصحاب الواحدة لدى ابن رشيق القيرواني في كتابه «العمدة في صناعة الشعر ونقده» فقال: «وأما أصحاب الواحدة فطرفة أولهم عند الجمحي»، ومضى يضيف شعراء آخرين لقائمة «أصحاب الواحدة» من غير شعراء المعلقات لتتسع القائمة ولكنها بقيت في سياق نقد الشعر الجاهلي ولم تذهب إلى أبعد من ذلك.
يشير مظلوم إلى أن ثمة واحدات أنفق شعراؤها وقتاً طويلاً في صياغتها وإعادة بنائها حتى أصبحت ديوان حياتهم ومرآة شخصياتهم عبر أطوار شتى كما هو الحال في «يتيمة» سويد بن أبي كاهل، وواحدة توبة بن الحمير التي تؤكد كتب النقد العربي عن بدايات متعددة لها أو قصص لاحقة، ووقائع حادثة، دخلت على هذه القصيدة التي تحكي قصة حب في مراحله المختلفة وتحولاته التراجيدية.
تندرج في هذا السياق القصائد اليتيمات كيتيمة دوقلة ويتيمة ابن زريق ولعل مفهوم اليتيمة يحتاج هو الآخر إلى مزيد من التدقيق والمقاربة، والمناقشة، أما المشهورات من القصائد فهي تلك التي طغت على ما عداها من قصائد الشاعر مثل«مرثية الأندلس» لأبي البقاء الرندي ومرثية مالك بن الريب لنفسه، وأما القصائد المنسية فهي التي ترد أبيات متناثرة منها في كتب الأدب على أنها مجهولة القائل، وهناك أيضا قصائد في رثاء المدن.
*خريطة
تشمل المختارات التي قدمها مظلوم في كتابه، جميع عصور الشعر العربي منذ العصر الجاهلي مروراً بالعصور الإسلامية، وصولاً إلى العصور المتأخرة، وانتهاء إلى العصر الحديث، كما تغطي هذه المختارات لأصحاب الواحدة خريطة الشعر العربي التقليدية من بغداد شرقاً إلى الأندلس غرباً.