يحيى زكي
السرديات المعاصرة التي تعيد قراءة التاريخ، تقدم أطروحات متعددة ربما لا يجمعها نظرية حاكمة، ففي عصر تموت فيه الأفكار الكبرى ويضيع فيه المعنى كما أعلن الكثيرون ذلك، لا يوجد إطار جامع يمكن من خلاله تقديم رؤية مفسرة في التاريخ.
إن تلك السرديات الحديثة، بل فائقة الحداثة، لم تعد تهتم بتقديم العامل الحاسم في التاريخ. ففي الماضي، ولأزمنة طويلة، كان البعض يقرأ التاريخ من خلال هذا العامل: الفرد أو القائد أو الطبقة أو الأيديولوجيا... إلخ، أما الآن فنادراً ما يتطرق أحدهم إلى أحد هذه العناصر. بالمثل لم يعد هناك من يهتم بمسألة القوانين الحاكمة للتاريخ أو حتى يجيب عن سؤال: هل هناك غاية من وراء حركة التاريخ؟ بل إننا لا نستطيع تكوين رأي موزون تجاه قضية: هل كان الماضي أفضل؟ وهل كل تطور مفيد للفرد والإنسانية؟ وبات للأحداث التاريخية الشهيرة والمعروفة أكثر من وجهة نظر.
في كتابها «العيش بطريقة مختلفة» تقدم المؤرخة الألمانية آنيته كيهنل رؤية جديدة لإحدى أكثر أطروحات الحداثة شهرة والتي تقول إن الحاضر أفضل من الماضي، تتناول كيهنل مسألة الظروف المأساوية التي عاناها العمال في الماضي، حيث كانوا يعملون من دون إجازات ولساعات طويلة كل يوم، في مصانع تفتقر إلى الظروف الإنسانية، ويسكنون في بيوت غير آدمية تسبب الأمراض والوفاة المبكرة.
تؤكد كيهنل في كتابها أن تلك الصورة السابقة كانت تتعلق بالعمل في المراكز الرأسمالية فائقة التصنيع خلال القرن التاسع عشر، أي أن الماضي لم يكن كله سيئاً ولكن الظاهرة تتعلق بحقبة واحدة منه فقط، وعبر الأرقام والإحصائيات توضح مؤرختنا أن ظروف العمل قبل القرن التاسع عشر كانت أفضل من نظيرتها الآن، وكل من يقرأ تشارلز ديكنز يعرف ظروف العمل في القرن التاسع عشر، وهو ما انعكس في ثيمات أدبية لدى كتّاب انتقدوا توحش الرأسمالية مثل «مصاص الدماء» و«وحش فرانكنشتاين».
ما تود كيهنل قوله هو أن الماضي لم يكن سيئاً أو ينطوي على شر، وهو ما يناقض جوهر الحداثة التي تمنح الأولوية للتطور، فالتاريخ يسير في خط تصاعدي من السيئ إلى الأفضل.
إن مسألة الموازنة بين الماضي والحاضر مركبة، بل وتبدو أحياناً شديدة التعقيد، ويدخل في مكوناتها عوامل معرفية ونفسية، فضلاً عن إحساسنا نحن بالزمن، وقيامنا كثيراً بالدمج بين الفردي والاجتماعي. ففي أوقات كثيرة نشعر بأن الماضي أفضل، وبأن التطور يأتي ومعه جوانب قصور عديدة في المعرفة والثقافة وكل ما ينتمي إلى الجانب الروحي والوجداني للإنسان، وفي أحيان أخرى نحس أن الحاضر أفضل وأن المستقبل يحمل وعوداً وآمالاً كثيرة للإنسان.
كيف نقرأ التاريخ، وكيف نكون «تاريخانيين»، وفق تعبير البعض، ووفق أي منهج نُقيم الحدث كما وقع من دون إسقاطات معاصرة أو تحيزات أيديولوجية أو شخصية، وكيف نميز بين ما يرتبط بنا وما يتعلق بالوقائع الجمعية؟ وهي أسئلة يعاد طرحها الآن بقوة في زمن يبدو فيه أن المعرفة التاريخية تعيش فوضى غير خلّاقة.