المسار البراغماتي لمجلس التعاون

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي *

شهدت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي تحوّلاً نوعياً خلال العقود الأخيرة في موقعها ضمن النظامين الإقليمي والدولي، حيث انتقلت من هامش التأثير السياسي إلى موقع الفاعل المركزي في معادلة الشرق الأوسط.
هذا التحول لم يكن انعكاساً تلقائياً لثروات النفط، بل نتاج مسار سياسي عقلاني، براغماتي الطابع، يستلهم من البيئة الصحراوية وعقلية البداوة قدرتها الفطرية على التكيّف، وإعادة تعريف الأولويات في ضوء المتغيرات العالمية، من دون التفريط بالثوابت السيادية.
في ميدان العلاقات الدولية، أتقنت دول الخليج سياسة التوازن بين القوى كأداة استراتيجية لضمان الاستقرار وتعظيم المكاسب. فبينما واصلت الحفاظ على شراكات أمنية واقتصادية راسخة مع الولايات المتحدة، سعت في الوقت نفسه إلى ترسيخ علاقات متقدمة مع قوى دولية صاعدة كالصين وروسيا.
وتشير بيانات استثمارية موثوقة إلى أن المملكة العربية السعودية ضخت ما يقارب 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الأربع الماضية، فيما أعلنت دولة الإمارات خططاً لاستثمار يتجاوز 1.4 تريليون دولار حتى عام 2030، تشمل مجالات الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية.
على الجانب الآخر، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون، حيث تستورد ما يزيد على 40% من صادراتها النفطية.
وتم تعزيز هذا التوجه من خلال قمم ثنائية واستراتيجية، من أبرزها قمة الرياض الخليجية–الصينية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، التي أسفرت عن توقيع اتفاقيات محورية في مجالات الاتصالات، والبنية الصناعية، والطاقة المتقدمة، في مشهد يعكس تحوّلاً واعياً نحو التعددية الدولية وتوسيع نطاق النفوذ.
الدور الخليجي لم يتوقف عند حدود الاقتصاد، بل تمدد إلى الحقل الدبلوماسي بقوة محسوبة. فقد رعت دولة قطر مفاوضات طالبان–واشنطن، ولعبت السعودية دوراً فاعلاً في تقريب وجهات النظر حول الأزمة الأوكرانية، فيما أشرفت الإمارات على عمليات تبادل أسرى حساسة بين روسيا وأوكرانيا والدور الفاعل اليوم للوساطة العمانية في دفع عجلة التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران في الملف النووي.
هذه الوساطات لم تكن تحركات رمزية، بل تؤشر إلى تموضع خليجي كوسيط موثوق في أزمات دولية مركّبة، بما يعزز صورة الخليج كفاعل مستقل قادر على ملء الفراغات الجيوسياسية، وليس مجرّد تابع لمحاور النفوذ التقليدية.
ورغم الضغوط الغربية لاصطفاف سياسي حاد بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، حافظت دول الخليج على نهج متزن، فرفضت الانخراط في العقوبات الجماعية على روسيا، وواصلت تطوير شراكات استراتيجية مع الصين في مجالات الطاقة والأمن الرقمي والابتكار، ما يعكس نضجاً في إدارة المصالح العليا بعيداً عن حسابات الانحياز الثابت.
أما على مستوى التمدد الخارجي، فقد تجاوز الطموح الخليجي الفضاء التقليدي ليشمل آسيا الوسطى، وشبه القارة الهندية، وشمال إفريقيا. ووقّعت دول الخليج اتفاقيات تجارة حرة مع باكستان والهند، وسعت إلى تعزيز التعاون مع قوى أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، إلى جانب انفتاح استراتيجي على القارة الإفريقية، إدراكاً لإمكاناتها كسوق واعدة للنفوذ الاقتصادي والسياسي الخليجي.
وفي الختام، لم تعد منطقة الخليج تكتفي بردّ الفعل في السياسة الدولية، بل أصبحت طرفاً مبادراً في رسم اتجاهات المرحلة المقبلة، سواء عبر استراتيجيات تنويع الشراكات، أو إطلاق المشاريع التنموية الكبرى، أو تقديم نماذج جديدة للحكم الرشيد، قائمة على مصالح واقعية تتجاوز الأيديولوجيا، وتؤسس لمنظومة إقليمية أكثر استقراراً.

* باحث في الشؤون الأمنية

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"