في أحد الأيام، دار بيني وبين أحد الزملاء حديث عابر، أخبرني خلاله بأنه صادف إحدى الزميلات في مركز تجاري، وكانت برفقة زوجها، فبادر بالسلام عليهما، رددتُ عليه بهدوء «ما كان عليك أن تفعل ذلك» تفاجأ من ردي، فسألني عن السبب، فقلت له، لأن العلاقة التي تربطنا بزميلاتنا في العمل، مهما كانت ودّية أو محترمة، لا تتعدى حدود مكان العمل، ولا يجوز أن تمتد إلى ما بعده.
وقد بلغني لاحقاً أن الزميلة شعرت بشيء من الضيق من الموقف، وربما شعرت بالإحراج، وهذا أمر متوقع، ففي مجتمعاتنا، هناك حساسية واضحة تجاه التداخل غير المبرر بين الحياة المهنية والحياة الخاصة، خصوصاً حين تكون المرأة في محيطها العائلي أو الشخصي، وما يبدو تصرفاً عادياً من وجهة نظر الزميل، قد يُفهم بطريقة مختلفة تماماً من الطرف الآخر، وقد يخلق حالة من التوتر أو الانزعاج غير المقصود.
ولهذا، نحن بحاجة إلى إعادة بناء فهمنا للعلاقات المهنية، ووضع ضوابط واضحة لها. كثير من الناس يخلطون بين الزمالة المهنية والعلاقات الاجتماعية، فيظنون أن مجرد وجود علاقة عمل أو مشاركة مكتب أو مهام يومية يعطيهم الحق في تجاوز الحدود، لكن الحقيقة أن الزمالة، في أصلها، علاقة مهنية مؤقتة، محكومة بزمان ومكان وسياق واضح، ولا تمتد إلى الحياة الشخصية.
هناك فرق كبير بين الاحترام الواجب داخل العمل، وبين التداخل الشخصي خارج العمل، والموظف الذكي هو من يوازن بين المهنية واللباقة، فيعرف متى يتواصل، ومتى يتوقف، ومتى يتجاهل بلطف، والتجاهل في هذه الحالات لا يُعد تصرفاً سلبياً، بل هو احترام للخصوصية ومراعاة للمكان والزمان والسياق.
حتى لو كانت الزميلة تعمل معك يومياً، أو كانت مسؤولة مباشرة عنك، فهذا لا يمنحك الحق في التواصل خارج إطار العمل، بل العكس، كلما كنت أكثر وعياً بحدود العلاقة، كنت أرقى في تصرفاتك، وأشد احتراماً لنفسك وللآخرين.
وإذا رأيت زميلتك خارج العمل، تجاهلها، ليس قلة ذوق بل قمة الذوق، لأنك حين تحترم خصوصيتها، فإنك تمنحها شعوراً بالأمان، وتحافظ على مهنيتك.
الرقي لا يكون في كثرة الكلام أو المجاملات، بل في معرفة متى تقترب، ومتى تبتعد، ومتى تختار الصمت، وعلينا أن نُعلّم أبناءنا أيضاً هذه القيم، وأن نغرس فيهم أن الزمالة، مهما طالت، تبقى داخل حدود مقر العمل فقط.
علينا أن نفهم أن المجتمعات تُبنى على احترام المسافات وتقدير الخصوصيات، وإذا أردنا بيئة عمل صحية ومحترفة، فلا بد أن نرسّخ هذه القيم ونمارسها بشكل يومي، سواء كنا موظفين، أو مسؤولين. البداية من فهم بسيط هو أن الزمالة ليست علاقة شخصية، بل مسؤولية مهنية تنتهي بانتهاء وقت العمل.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







