كل الطرق إلى المستقبل، مستقبل النظامين الإقليمي والدولي، ملغّمة تماماً بانسداد الأفق السياسي في ثلاث حروب متزامنة، غزة وأوكرانيا وأخيراً الحرب في شبه الجزيرة الهندية بما تحمله من مخاطر نووية محتملة.
في غزة.. مشاهد الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي تزعج الضمير الإنساني دون أفق سياسي يوقف المأساة.
في أوكرانيا.. لا خطوة واحدة إلى الأمام لوقف الحرب في قلب أوروبا، لا أحد يعرف: كيف.. ومتى تتوقف آلة التدمير.. ولا ما الترتيبات، التي تتبعها في حسابات القوى؟
في شبه الجزيرة الهندية، مواجهات السلاح فيها من عمر تقسيم الهند عام (1947) والصراع المحتدم على إقليم جامو وكشمير. الخطير هذه المرة أن الطرفين المتقاتلين يمتلكان سلاحاً نووياً.
إنها ثلاث حروب متزامنة وكاشفة بالوقت نفسه لحقائق تولد من تحت الأنقاض ورسائلها إلى المستقبل المنظور.
بتوصيف للكاتب تسيفي برئيل في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية فإن: «الحرب ضرورية لمواصلة بقاء التنظيم الإجرامي الذي يسمى حكومة إسرائيل ومن يترأسها».
هكذا بالنص للتعبير عن مدى الانقسام، الذي يضرب المجتمع الإسرائيلي في وحدته الداخلية. لم يكن القصف المتواصل للبيوت ووقف إدخال المساعدات الإنسانية والتجويع حتى الموت، والعمل على نقل مليوني شخص خارج ديارهم- حسب الكاتب نفسه- سوى ذرائع للبقاء في السلطة تحت دعاوي هزيمة «حماس»..لا نهاية للحرب مهما تنازلت «حماس».
إذا أوقفت الحرب باتفاق أو آخر ينهار على الفور الائتلاف الحاكم ويخسر بنيامين نتنياهو منصبه ومستقبله السياسي معاً.
إنه وضع هش يقوّض مسبقاً أيّ تسوية أمريكية مقترحة، مهما كان انحيازها المفرط لإسرائيل. حسب ترامب فإن أكثر ما يضايقه أن يتلاعب به أحد. هو غير مستعد أن يفسد عليه نتنياهو خططه ومشروعاته قبل زيارته المرتقبة للمنطقة طلباً لاستثمارات ضخمة في شرايين الاقتصاد الأمريكي.
من دون أي تنسيق مسبق مع إسرائيل، توصل إلى اتفاق مع الحوثيين لوقف الحرب في البحر الأحمر وتركها وحيدة. ومن دون أي تنسيق آخر مضى قدماً في خططه لتجنب الحرب مع إيران بالمفاوضات غير المباشرة والمباشرة.
الاستغناء الإسرائيلي عن الدعم الأمريكي الاستراتيجي والعسكري والسياسي مستحيل تماماً..احتمالات إطاحة الحكومة واردة بسيناريو أو بآخر.
وضع إسرائيل أمام الأمر الواقع، أو فرض تصورات ترامب على حكومتها، واردة، لكنها ملغّمة بحسابات داخلية أمريكية في بنية الحزب الجمهوري صاحب الأغلبية في الكونغرس المؤيد على طول الخط لإسرائيل.
بانسداد الأفق السياسي في حربي غزة وأوكرانيا تتفاقم أزمة ترامب وتضع مصداقيته على المحك.
في الحرب الأوكرانية لم يحدث أي تقدم يُعتدّ به، باستثناء دعواته من وقت لآخر لهُدَن غير مشروطة تلتقط الأنفاس خلالها، قبل التوجّه إلى المفاوضات.
روسيا تستشعر أن الوقت لصالحها، وأوكرانيا تبدي استعدادها لوقف إطلاق النار فوراً، أوروبا عاجزة عن ملء فراغ الدور الأمريكي.
بنشوب مواجهات عسكرية في شبه الجزيرة الهندية قد يفلت زمامها إلى حرب نووية تفاقمت معضلاته في إدارة القوى العظمى الوحيدة.
هذا اختبار لقدرته على القيادة. لم تكن هذه أول مواجهة بين الدولتين النوويتين.
الدولتان تنفيان تورطهما في تصعيد الحرب، تحمّل كل منهما الأخرى مسؤولية المواجهة على الحافة النووية.
الهند تتهم باكستان بدعم جماعات إسلامية تقول إنها إرهابية، وباكستان تلمح إلى طبيعة الحكومة الهندية الهندوسية المتطرفة.
الفارق بين الهند (1971) و(2025) هو نفسه الفارق بين رئيسة الوزراء أنديرا غاندي ورئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، أو بين حزبي «المؤتمر» و«بهاراتيا جاناتا».
الأولى، تبنت خط عدم الانحياز، ناصرت عدالة القضية الفلسطينية وقطعت علاقاتها مع إسرائيل.
والثاني، يتحالف مع إسرائيل ويعتمد على تقنياتها وأسلحتها.
كان مستلفتاً إسناد ترامب إلى وزير خارجيته «ماركو روبيو» مهمة التدخل لوقف التصعيد وضبط النفس. الخارجية لا مبعوثه الخاص «ستيف ويتكوف»، الذي يتولى ملفات حربي غزة وأوكرانيا والحوار مع روسيا والتفاوض مع إيران!
ربما يعني ذلك درجة أقل من العناية الترامبية بمجريات الحرب الهندية الباكستانية، أو توجّهاً إلى تصعيد دوره من الهامش إلى صلب القرار.
في 3 ديسمبر/ كانون الأول (1971) نشبت حرب واسعة بين البلدين استمرت لثلاثة عشر يوماً هزمت فيها باكستان..بعد وقف القتال انفصلت بنغلاديش عنها.
بذلك الوقت، عزا الرئيس الأسبق أنور السادات تأجيل قرار الحرب لتحرير سيناء المحتلة إلى ما أسماه «عام الضباب»، الذي لف العالم أثناء الحرب الهندية الباكستانية.
كان ذلك داعياً عند مطلع العام التالي يناير/ كانون الثاني (1972) إلى تظاهرات غاضبة في جامعة القاهرة امتدت لجامعات مصرية أخرى لتشديد الضغط الشعبي من أجل خوض الحرب وبناء جبهة داخلية متماسكة وقوية بمشاركة سياسية واسعة في صنع القرار.
بأثر النتائج العسكرية لتلك الحرب تبدت رسالة إيجابية رفعت المعنويات العامة في البلد كله. انتصر السلاح السوفييتي، الذي حاربت به الهند وتتسلح به مصر، على السلاح الأمريكي الذي حاربت به باكستان.
رسائل السلاح تعاود الآن طرح نفسها بطريقة مختلفة. نجحت باكستان في إلحاق أضرار فادحة بالطيران الهندي اعتماداً على الصواريخ والتقنيات الدفاعية الصينية.
لا يمكن إغفال التقدم التسليحي والتقني الصيني في النظر إلى مستقبل النظام الدولي. إنها قوة صاعدة باقتصادها وسلاحها إلى قمة نظام دولي متعدد الأقطاب يوشك أن يولد من تحت أنقاض الحروب الثلاث.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







