«بيروت يا بيروت»

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

يعيدك معرض الكتاب اللبناني الذي انطلق في بيروت أمس الأول إلى بيروت الأمس البعيد، بيروت الستينيات والسبعينيات والثمانينيات على الرغم من قسوة ورعب العقدين الأخيرين، عقدي الحرب الأهلية، وزمن الميليشيات، وعصر القتل على الهوية والمذهب والطائفة، ولكن الثقافة العربية اللبنانية في عاصمتها الحرّة الحية بيروت سوف تتحدى كل ذلك الرعب الأسود والأصفر، وسوف يكون الكتاب كلمة السرّ في هذا التحدي النّاعم الجميل. ومن ضمن الجمال اللبناني أيضاً الغناء، والموسيقى، والأيقونة فيروز الخارجة على كل الحسابات السياسية والحزبية، الأرزة الوحيدة التي حفظت العلم اللبناني من التمزّق والاحتراق.
في كل مراحل لبنان الثقافية لم تتوقف صناعة الكتاب، وبرع البيروتيون أكثر من غيرهم في تأسيس دور النشر وربط أسمائها بالذاكرة الفكرية العربية: دار ابن رشد، دار الفارابي، دار ابن سيناء، وبعضها أخذ أسماء وجدانية تلعب على قصة الحنين إلى ما يسمى الفردوس المفقود وغير المفقود مثل دار العودة التي أطلقت في الستينيات أو في أواخرها، إن لم تخن الذاكرة، أوّل تقليد نشري عربي لبناني يتمثل في كتب الأعمال الكاملة، بغلاف أحمر قويّ، وطباعة متينة فاخرة.
سنقرأ السوداني محمد الفيتوري، والعراقي عبد الوهاب البياتي، والمصري أمل دنقل، والسوري محمد الماغوط من بيروت، والبعض عاش في بيروت ليبحث عن نفسه في مدينة الماء والشمس، ولن يخيب ظنّه، فسوف يجد هناك نفسه وذاته وكينونته الوجدانية والشخصية مثل محمد الفيتوري الذي تصفّت سودانيته أو إفريقيته في بيروت وأصبح أكثر شفافية شعرية في مرحلته اللبنانية تلك. وجد ثلاثة من الشعراء السوريين ذواتهم الحرّة المفقودة في بيروت التي كانت بالنسبة إليهم مدينة هوية ومدينة خلاص: نزار قباني، ويوسف الخال، وأدونيس، ومن بيروت انطلقت واحدة من أهم مجلّات الحداثة الشعرية «مجلة شعر»، ومؤسسوها سوريون، لكن لولا بيئة بيروت الثقافية والنشرية من الناحية الاستقلالية والمهنية لما كان للمجلة هذا الأثر الثقافي والأدبي المتداول إلى اليوم.
أسهمت بيروت إلى حدّ كبير في صناعة الكتاب الفلسطيني وحركة النشر الفلسطينية في ثمانينيات القرن العشرين، والكثير من الشعراء الفلسطينيين الذين لم يغرقوا حتى رقابهم في مستنقع السياسة، أعطتهم بيروت هوية اعتراف بأسمائهم السبعينية والثمانينية تلك، وهي الهوية الإبداعية والرمزية معاً التي أطلقت شهرتهم الانتشارية في الوطن العربي.
معرض الكتاب اللبناني في بيروت، اليوم، أقل من اسم وتاريخ بيروت، والتاريخ الثقافي لهذه المدينة القصيدة يقول إن المعرض ينبغي أن يكون أكبر من حجمه الرّاهن بكثير، ولكن مع ذلك، فإن رمزية المعرض كبيرة، وتداعيات هذه الرمزية أكبر في ذاكرة المثقفين العرب الذين عاشوا في مدينة الواقع والخيال، وفي ذاكرة الذين لم يعيشوا فيها، فهؤلاء تمثّلوها على الأقل، أو أنهم حلموا بها.
بيروت الحلم، بيروت الخالية من سمّ المذهبية والطائفية والسلاح، والدرّاجات النارية المهنية في صناعة الموت، تحقق اليوم كاملة مكتملة بصناعة ثقافة الحياة.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"