يُعد الالتزام بالحفاظ على أمن دولة إسرائيل وتفوقها العسكري النوعي في منطقة الشرق الأوسط، حجر زاوية راسخاً في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، وذلك لجملة من الاعتبارات، أبرزها: القناعة المتوارثة من جيل إلى آخر من السياسيين الأمريكيين بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وإن كان هذا التصنيف قد مر بمراحل عديدة من التشكيك بحكم الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، وسياسات الفصل العنصري، وأخيراً جرائم الحرب والإبادة في قطاع غزة. كما يرتكز هذا الالتزام أيضاً على اعتقاد كثير من الاستراتيجيين بأن تل أبيب امتداد طبيعي للحضارة الغربية، وجبهة متقدمة في مواجهة الحضارات الشرقية.
ومن هذا المنطلق أصبح تضمين بنود دعم إسرائيل في الأجندات الانتخابية الأمريكية لأي مرشح، سواء لمنصب الرئاسة أو عضوية الكونغرس، من المُسلّمات التي سيثير غيابها تساؤلات الإعلام والجمهور، ولكن، بعيداً عن وعود الساسة التي لا قرار لها، ومن منظورٍ استراتيجي بحت، هل لا تزال المصالح الأمريكية الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط متطابقة مع مصالح إسرائيل؟ وهل تضاربت أم توافقت سياسات واشنطن الإقليمية في السنوات الماضية مع سياسات تل أبيب؟ ولماذا؟
لا یخفى على أي متخصص بالشؤون الدولية أن مواجهة الصعود الصيني باتت الهدف الاستراتيجي الأسمى للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة، ولكي تنجح واشنطن في هذا المسار، يتعيّن عليها تخفيف انخراطها في مناطق أخرى من العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، ليتسنى لها نقل أصولها العسكرية نحو شرق آسيا.
إن كل ما قامت به واشنطن خلال السنوات الأخيرة في المنطقة، لا يمكن فهم دوافعه بمعزل عن هذا التوجه إلى شرق آسيا أو سياسة «الاستدارة شرقاً» كما تسميها الأدبيات الأمريكية، فمن الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، ومروراً بالاتفاقات الإبراهيمية في عام 2019، إلى محاولات دفع ملف السلام بين السعودية وإسرائيل قبيل توقفها عقب هجوم السابع من أكتوبر، والمفاوضات الجارية بين إدارة ترامب وإيران حول الملف النووي، كلها مؤشرات تدعم فكرة رئيسية واضحة مفادها أن واشنطن تسعى إلى «تدجين» إيران، ودمج إسرائيل في المنطقة، لتقليص مبررات وجودها العسكري بصفتها دولة عظمى في الشرق الأوسط.
ولكن ماذا عن إسرائيل؟ صحيح أن العلاقة بين تل أبيب وواشنطن هي علاقة مؤسساتية، لكن هذه المؤسسات الأمريكية نفسها باتت تدرك أنه لا يمكن تحقيق انسحاب أمريكي ناجح من الشرق الأوسط من دون تسوية قضيتين أساسيتين هما: حل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين، وملف إيران النووي وسلوكها الإقليمي، وهنا يكمن الصدام بين الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية.
ولذلك فإن الرهان الأمريكي على إمكانية «الرحيل الآمن» من المنطقة من دون معالجة جذرية للملفَّين الفلسطيني والإيراني، هو رهان محفوف بالمخاطر، فتجاهل المسألة الفلسطينية، أو تأجيل حلها بذريعة الواقع الإقليمي المعقد، يُبقي المنطقة في حالة توتر دائم يعرقل أي خطة لإعادة الانتشار العسكري الأمريكي.
وكذلك فإن التعامل مع إيران بمنطق الاحتواء فقط، من دون التوصل إلى اتفاق مستدام يحظى بقبول إقليمي، يعني استمرار التصعيد، سواء عبر أذرع إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أو عبر تحوّلات تكنولوجية نووية قد تُفرغ أي اتفاق مستقبلي من مضمونه.
وفي المقابل، لا ترى إسرائيل أي مصلحة استراتيجية في إنهاء أيٍّ من هذين الملفين، فمن منظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، استمرار السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 مصلحة وطنية متعلقة بوجود وبقاء الدولة العبرية. وبالمثل، ترى تل أبيب في إبقاء إيران عدواً إقليمياً غير نووي فرصة لضمان استمرار تدفق الدعم الأمريكي العسكري والاستخباري غير المشروط.
ولكن ما تغير في السنوات الأخيرة هو أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، برغم التزامها المبدئي بتفوق إسرائيل عسكرياً، لم تَعُد مستعدة لمنح هذا التفوق «شيكاً على بياض»، فالحرب الأخيرة على غزة كشفت حدود هذا الالتزام، إذ اضطرت واشنطن، تحت ضغط الرأي العام والمؤسسات الدولية، إلى مطالبة تل أبيب بضبط عملياتها العسكرية والتخفيف من حدة الانتهاكات الإنسانية، حتى إن لم يُترجَم ذلك إلى تحول جذري في سياساتها على الأرض.
في المحصلة، يمكن القول، إننا نشهد بداية تحول في طبيعة العلاقة الإسرائيلية-الأمريكية: من علاقة قائمة على «شبه تطابق استراتيجي» إلى علاقة «تحالف مشروط»، فواشنطن لم تَعُد ترى الشرق الأوسط منطقةً تستحق الانخراط الكامل، في حين لا ترى إسرائيل لنفسها مخرجاً آمناًَ إلا عبر استمرار هذا الانخراط.
وبينما تسعى أمريكا إلى إجراء انسحاب محسوب من المنطقة، تبذل إسرائيل جهدها لمنع هذا الانسحاب، أو تأجيله حتى إشعار آخر على أقل تقدير، وهذا ما يجعل السنوات المقبلة حاسمة في تحديد مستقبل العلاقة بين الطرفين، ولا سيّما إذا تعرّضت المصالح الأمريكية في شرق آسيا لأي تهديد يستوجب إعادة توزيع الموارد العسكرية والسياسية توزيعاً أكثر صرامة، وعندها قد تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى إعادة تعريف أولوياتها وتحالفاتها، بما في ذلك طبيعة علاقتها بإسرائيل.
وهنا يُطرح السؤال الأخطر: هل تقبل إسرائيل بلعب دور الحليف في عالم متعدّد الأقطاب، أم تصرّ على أن تكون الاستثناء الأمريكي الأخير في شرقٍ لم يَعُد أولوية؟
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







