بين الرؤية البصرية وأمانة النص

01:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

شهدت العقود الأخيرة ازدياداً ملحوظاً في تحويل الروايات الأدبية إلى أعمال درامية، باعتبار التلفزيون والسينما هما أبرز الجسور بين الأدب والفن المرئي.
إن تحويل الرواية إلى عمل درامي لا يعني نسخ تفاصيلها بقدر ما هو عملية إبداعية تتطلب فهماً عميقاً لروح النص وتفاصيله، وتحويله إلى مشاهد وحوارات وحركة بصرية تلامس المشاهد وتؤثر فيه.
وأولى التحديات التي تواجه المخرج أو كاتب السيناريو تتمثل في التفاوت الجوهري بين طبيعة الرواية وفن الدراما، فالرواية تعتمد على اللغة الداخلية وتكثيف وصفي للمشاعر والبيئة، وهي عناصر لا يمكن نقلها حرفياً إلى الشاشة. وهنا تظهر مهارة كاتب السيناريو في ترجمة هذه اللغة الأدبية إلى لغة بصرية، وقدرة المخرج على ربطها بالحركة والإيقاع، والأداء التمثيلي. فالمشهد الذي تصفه الرواية في عشر صفحات يمكن تجسيده في دقيقة واحدة من خلال اختيار زوايا التصوير المناسبة، وتوظيف الإضاءة والموسيقى بذكاء.
لكن المشكل الأساسي الذي يرافق هذه العملية غالباً ما يكون بين أمانة النقل من النص الأصلي والحرية الفنية التي تتيح لكاتب السيناريو والمخرج إعادة النظر في الرواية لتتلاءم مع المشاهد وتصبح أكثر مرونة، فبينما يتوقع عشاق الرواية التزاماً دقيقاً بأحداثها وشخصياتها، يرى بعض المخرجين أن الاقتباس يمنحهم الحق في إعادة صياغة النص بما يتلاءم مع لغة السينما أو التلفزيون، وهذا ما نراه في حالات عديدة عندما تحذف شخصيات فرعية أو يصار إلى تغيير في نهاية الرواية، أو حتى تقديم القصة من زاوية مغايرة تماماً. في بعض الأحيان، تبرز نسخة الفيلم أو المسلسل لتصبح أكثر شهرة وتأثيراً من الرواية نفسها، ما يثير الجدل حول دور السينما في إعادة تشكيل الذاكرة الأدبية الجماعية.
ولا يتوقف النجاح في تحويل الرواية إلى عمل درامي على السيناريو فقط، بل يشمل عناصر عديدة مثل اختيار الممثلين وأسلوب الإخراج والموسيقى التصويرية والتصميم الفني. فالرواية التي تمنح القارئ حرية تخيل الشخصيات والمكان، تحمّل المخرج مسؤولية تجسيد هذا الخيال بطريقة تلائم بين تصور المتلقي الأصلي وبين ما يُعرض على الشاشة. ولهذا نجد بعض الأعمال تُتهم بأنها «خانت» النص الأدبي، في حين أن أعمالاً أخرى تلقى إشادة لقدرتها على تجسيد النص بشكل عميق ومؤثر.
ومن الناحية الثقافية، فإن تحويل الروايات إلى دراما مرئية يُسهم في نشر الأدب وتوسيع جمهوره، خاصة في ظل تراجع معدلات القراءة لصالح المحتوى المرئي. فمشاهدة مسلسل مأخوذ عن رواية قد يدفع بعض المشاهدين للعودة إلى النص الأصلي لاستكشاف الفروقات أو لفهم العمق الذي ربما لم يتمكّن العمل المرئي من نقله بالكامل، كما أن الأعمال المأخوذة من روايات تفتح باباً للحوار النقدي حول القضايا والمواضيع التي تزخر بها النصوص الأدبية.
في النهاية، فإن تحويل الرواية إلى عمل درامي هو شكل من أشكال التفاعل الثقافي بين الأدب والوسائط الحديثة، وليس من الضروري أن تكون الدراما نسخة طبق الأصل عن الرواية، بقدر ما ينبغي أن تكون وفية لجوهرها وروحها. وهو فعل إبداعي بامتياز، يعيد طرح الأسئلة التي تثيرها الرواية بلغة معاصرة تخاطب جمهوراً جديداً، وتتواصل معه بأسلوب معاصر، وتمنح النص حياة جديدة على شاشة مختلفة، وربما تتفاعل مع جمهور لا يعرف القراءة، لكنه يعرف التلقي والانفعال.
لذلك، فإن كل محاولة ناجحة لتحويل الرواية إلى عمل درامي ليست مجرد اقتباس، بل حوار إبداعي يصل بين كاتب الكلمة ومخرج الصورة، ويربط بين زمن الكتابة وزمن المشاهدة، وبين قارئ يتخيل ومشاهد يتأمل.

[email protected]

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"