لماذا لم يعكف علماء اللغة القدامى والمعاصرون، على بحوث موسيقية نغمية للعربية؟ ليس كافياً القول إن الموسيقى هي الأخرى قليلة الحظ والحظوة بالدراسات في تاريخنا. للأسف، لو أحصينا كل ما كتب عن هذا الفن، لوجدناه لا يساوي حتى عُشُر ما ألّفوه في الأمثال. لهذا يرثي القلم لحال لساننا، الذي لم يُتحفه أهل الاختصاص بعميق البحوث في فلسفة موسيقى العربية، والدراسات الاستقصائية في الإحساس بجمال اللغة.
هنا، لا بدّ من التوضيح، حتى لا يتفرّق المعترضون أيدي سبأ، أو يغرّدوا في الردود خارج سرب المقصود.
لا شك في أن علماء اللغة في النحو والصرف والبلاغة، أبلوا كل أنواع البلاء الحسن في كشف البدائع البلاغية في النصوص. لقد برهنوا على أدمغة فائقة ومهارات عالية. ما يعنيه القلم هو ما قبل علوم اللغة، نحوها وصرفها وبديعها وبيانها، أي مسيرة تشكُّل المادّة اللغوية الخام، من أفعال ومصادر وأسماء، والغوص في بنية المفردة موسيقيّاً، وما وراءها، وما في باطنها من مفارقات وألعاب، قبل ظهور طلائع الإبداع بالكلمة وتطوّر الأجناس.
هذا هو المذهل، لأن ما قبل قيام علوم اللغة يوجب أسئلةً فلسفيةً مدوخةً. إذا قطعنا بأن اللغويين بعد الجاهلية لم يضعوا ولا حتى مثقال ذرّة من قواعد العربية، فهل كان للغة في مراحل نشوئها وارتقائها عقل خفيّ أو مجامع لغوية غير مرئية، شرّعت لها فعلاً وفاعلاً ومفعولاً، وألواناً لا تحصى من الموسيقى الداخلية للمفردات، أهّلتها ليشيد بها الشعراء والناثرون روائع الإبداع؟ في جوهر تكامل نشأة العربية فلسفة ذوقية، كأنما يحكمها قانون موسيقي: حذارِ تنافر الأصوات والنشاز هنا، أو قانون مرور: طريق ذو تُجاه واحد.
الأمثلة بالآلاف، نأخذ قلّةً من طرائف موسيقى الأفعال. تقول: صام، يصوم، صوماً وصِياماً، وتقول: عام، يعوم، عَوْماً، لا عِياماً. هذا خاضع لمبدأ رائد في العربية، السماع، قانونه: قالت العرب. (بالمناسبة: في العصر الإسلامي صار السماع يعني الموسيقى، مجالس السماع عند القيان والجواري، ولدى المتصوّفين. كلمة «سماع» العربية تعني في الفارسية الموسيقى الصوفية).
تقول قام، يقوم قياماً، لا قوْماً، تجنّباً لمعنى القوم. تقول: ثاب يثوب ثوباً، بالرغم من الاختلاط بالثوب، ولم يقولوا ثياباً. من الذي حدّد هذه المسارات الموسيقية؟ تقول: دام يدوم دوماً ودواماً، لم يقولوا دِياماً مثل صياماً وقياماً. وقالوا: نام، ينام نوماً، ولم يقولوا نياماً، خشية إيقاظ الجمع العربي النائم.
لزوم ما يلزم: النتيجة الموسيقية: على علماء اللغة أن يشرحوا صدورنا بأسرار الإبداع الذي ألّف سيمفونية اللغة، قبل أن تبتلي الأقدارُ العربيةَ بالنحاة.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







