عادي

البلاغة تكتب شهادة ميلادها من جديد

16:28 مساء
قراءة 3 دقائق


تبدو البلاغة لعامة الناس مثل معرفة متجاوزة وزائدة، ويود الكثير منهم لو يمسك بها، ويلوي عنقها، كما دعا إلى ذلك الشاعر فيرلين، متناسين أنهم في أحاديثهم اليومية يستعملون الصور الأكثر بلاغة (من مجاز واستعارة وكناية وتشبيه وتمثيل ومقابلة وتورية وغيرها) من دون دراية بذلك، بل إننا نجد عدوى هذا النفور، تنتقل أحياناً إلى صفوة المثقفين، الذين تزخر كتاباتهم بالوجوه البلاغية، رغم نفورهم لها.


كل هذا يكشف عن المكانة المهمة، التي تحتلها هذه المعرفة المهمشة في العالم المحيط بنا، فهي توجد خارج المدرسة والجامعة، لتحضر في التلفزة، والرسم، والسياسة، والمواعظ الدينية، ومؤسسات الثقافة، ومناهج العلوم، فلا يكاد يخلو منها أي خطاب، إلى درجة تجعلنا نعرف الإنسان بأنه «حيوان بلاغي».


هذا الكتاب الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع، وعنوانه «قراءة جديدة للبلاغة القديمة» من تأليف رولان بارت وترجمة عمر أوكان، يرى أن تراجع البلاغة يعود بالأساس إلى اختزالها في «نظرية الصياغة» التي قيدتها بالبحث في الصور والوجوه والزخارف، وبالإجمال في «الأسلوب وهو ما جعل«نوفاليس» يعتبر البلاغة أسلوبية قديمة.


جنى هذا الاختزال كثيراً على البلاغة، إذ جعلنا ننسى جانبها التداولي المرتبط بنظرية الإقناع المعبر عن المحاججة والمخاصمة والمجادلة والمنازعة والمناقشة والمحاورة والمناظرة وغيرها، فمنذ بدايتها تأسست البلاغة مثل فن الإقناع بواسطة الكلام، وهو ما يجعلها تأملاً في اللغة والفكر، إنها لسانيات «ذهنية» عامة فهي تتعلق بكل اللغة، كما أنها لغة الكل.

*قربى


يؤكد أرسطو الحدود بين كل من «الشعرية» و«البلاغة» فالأولى تدرس المحاكاة أو التخييل بمصطلح العرب، إنها تهتم باستحضار الصورة، بينما تدرس الثانية السبل المؤدية إلى الإقناع، إنها تتعلق بالتواصل اليومي، بالفكرة، وانطلاقاً من هذه الأفكار نفهم انتقاد أرسطو الشديد لجوجياس الذي اهتم بتقريب البلاغة من الشعر، فالصياغة تحتل مكاناً هامشياً لدى أرسطو في مقابل الترتيب (أجزاء الخطاب) والابتكار (موضع الحجج) وهكذا منح أرسطو البلاغة صبغتها التداولية منذ الوهلة الأولى.


يشير الكتاب إلى أن الوظيفة الإقناعية للبلاغة تجعل من التواصل معركة، يصير فيها الكلام سلاحاً، والهزيمة جرحاً قاتلاً، ولأجل كسب هذه المعركة تضع البلاغة بين يدي المتكلمين مجموعة من الإمكانات الفكرية (الدليل، الحجة، العلامة، الأمارة، القياس، المحتمل، الاستدلال) والعاطفية (التحريك، الانفعال، الأحاسيس، العواطف، الطبائع) واللغوية (الوضوح، الدقة، السلامة، الصور، الأساليب، الوجوه، الزخارف) بل وحتى التمثيلية (نبرات، حركات، نغمات، قسمات، إيماءات).


من هنا نخطئ حين نعتبر البلاغة جمالية للغة، وإنما هي أيضاً فلسفة التفكير، ثقافة المجتمع، أيديولوجية الطبقات، أسلوبية الحوار، ومثال العقل البشري عموماً.

*مفهوم


يوضح الكتاب أن الالتقاء بين الشعرية والبلاغة جعل هذه الأخيرة تنفصل عن أجناسها، لتلتقي مع المفهوم المطلق للأدب، وبالإجمال مع ما أطلق عليه جاكبسون«الوظيفة الشعرية» وبهذا المسخ لصورة البلاغة تكون هذه الأخيرة قد وقعت شهادة موتها، وخصوصاً بعد توالي الصيحات بإلغائها، ومنها الصيحة الرومانسية التي عبر عنها هوجو بقوله:«الموت للبلاغة والسلام مع النحو»كما كان لانتشار النزعة التاريخية في الدراسة الأدبية أبلغ الأثر في غياب البلاغة عن الواجهة الثقافية.


غير أن موت البلاغة لم يكن موتاً حقيقياً وإنما«نصف موت» أو بعبارة أدق «نوم» فقد استطاعت البلاغة أن تستيقظ وتكتسب الساحة بقوة أكبر مما كانت عليه في عصرها الذهبي (اليوناني والروماني) إلى درجة صارت تبدو معها مثل موضة أو تعبير عن الحداثة.


يرجع الفضل في هذا التحول إلى محاولات بعض الباحثين، ونتيجة للتطور الذي عرفته بعض الفروع المعرفية المجاورة لهذا الحقل، مثل السيميائيات واللسانيات والتداوليات والشعريات وغيرها لتظهر أسماء لامعة مثل جيرار جينت، وتزفيتان تودوروف، وجون كوهن، وبول ريكور، وبالطبع رولان بارت.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"