د. أيمن سمير
وصف البعض جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في دول الخليج العربي بأنها تأكيد على شراكة سياسية واقتصادية ودفاعية وتكنولوجية جديدة تتوج عقوداً من التعاون بين واشنطن ودول الخليج، وبالتأكيد هذا صحيح تماماً، لكن التعمق في الاتفاقيات والكلمات التي جاءت خلال الزيارة تكشف أننا أمام أبعاد أعمق، واستراتيجيات أبعد، تقول كلها إن الولايات المتحدة بدأت تنتهج سياسة جديدة عنوانها «الاستدارة للشرق الأوسط» من جديد.
فقبل جولة الرئيس ترامب الخليجية، وخصوصاً في عهد آخر رئيسيين من الحزب الديمقراطي الأمريكي جرى التسويق لمعنى ومفهوم «الاستدارة شرقاً» وتصدت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون لترويج لهذا المفهوم الذي استمر خلال ولايتي باراك أوباما، والولاية الوحيدة للرئيس جو بايدن.
كان مفهوم «الاستدارة شرقاً» يقوم على مسارين متوازيين، الأول أن الشرق الأوسط بما فيه المنطقة العربية والدول الخليجية، تراجعت أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لواشنطن، والثاني يتعلق بظهور «المغانم والمغارم» في أقصى شرق آسيا في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ومنطقة «الإندو- باسيفيك»، وبدأت بالفعل الولايات المتحدة منذ عام 2011 تركز جهودها العسكرية والسياسية على شرق آسيا مع محاولات «للتخارج» من الشرق الأوسط «والابتعاد عن المنطقة العربية، وتجلى هذا «التخارج» في تراجع أعداد القوات الأمريكية من إقليم الشرق الأوسط حتى وصلت لنحو 40 ألف جندي فقط قبل عودة الرئيس ترامب بعد أن كانت في فترة من الفترات نحو 170 ألفاً، وشاب الفتور العلاقات بين الدول العربية والبيت الأبيض، ووصل الأمر إلى محاولات كثيرة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولعل تفاصيل ما يسمى بـ«الربيع العربي» معروفة للجميع عندما أراد الديمقراطيون أن يفرضوا نمطاً سياسياً له أبعاد أيدلوجية على الدول العربية، وروج الديمقراطيين للشرق الأوسط باعتباره «مصدراً للمشاكل والإزعاج للبيت الأبيض»، وهذه هي الأسباب التي كانت وراء عدم التناغم بين السياسيات التي انتهجها البيت الأبيض وكثير من الدول العربية طوال نحو 12 عاماً من حكم الديمقراطيين، وهو ما دفع الرئيس ترامب ليقول بوضوح خلال جولته الخليجية إنه يحترم تماماً «القيم السياسية العربية» وإن ما تشهده المنطقة الخليجية من نمو وازدهار يعود حصرياً إلى «قيادات وشعوب هذه الدول التي لا تحتاج إلى دروس من أحد»، فما هي سياسة «الاستدارة شرقاً» التي سار عليها الديمقراطيون؟ وكيف يقوم الرئيس دونالد ترامب بعمل «استدارة كاملة للشرق الأوسط» من جديد؟ وكيف نجحت الدول العربية وخصوصاً الخليجية منها في أن «تحصن العلاقات الأمريكية الخليجية لأبعاد وفترات طويلة قادمة سواء أكان ساكن البيت الأبيض جمهورياً أم ديمقراطياً؟».

إعادة تموضع استراتيجي
المدقق في كلمات وتصريحات الرئيس ترامب خلال زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر، يؤكد أننا أمام «إعادة تموضع استراتيجي» للولايات المتحدة الأمريكية في «الشرق الأوسط» بعد 12 عاماً من محاولات الديمقراطيين الخروج من الشرق الأوسط بالكامل والاتجاه لمحاصرة الصين عبر تشكيل «حلقة من النار» والقواعد العسكرية حول الأراضي والمياه الصينية، ووضع الرئيس جو بايدن خطة لفصل الاقتصاد الأمريكي عن الاقتصاد الصيني، ونتيجة لكل ذلك جرى نقل وتخصيص جزء كبير من الموارد الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، وفي أحيان كثيرة تم تفكيك منظومات دفاعية مثل «باتريوت وثاد» من الشرق الأوسط، وجرى نقلها إلى شرق وجنوب شرق آسيا، وتمحورت الأسباب التي أعلنها الديمقراطيون وراء ذلك «بالغانم والمغارم»، فالمغانم وفق حساباتهم كانت تقول أن هناك «طبقة وسطى آسيوية» صاعدة يصل عددها لنحو 800 مليون مستهلك يمكن أن تشترى البضائع الأمريكية الأعلى سعراً وجودة من البضائع الصينية وباقي البضائع الآسيوية، وأن هذا سيشكل نقلة نوعية في حجم ونوعية الصادرات الأمريكية لشرق وجنوب شرق آسيا، لكن ثبت أن هذا صحيح بعد أكثر من عقد على هذه السياسة التي تبقى منها فقط زيادة حجم ومنسوب التوتر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
لكن جولة الرئيس ترامب في الخليج تكشف العودة الجديدة «والاستدارة الأمريكية بالعلامة الكاملة» لمنطقتنا من خلال التأكيد على 6 قضايا رئيسية وهي:

أولاً: الخليج وأمان الطاقة العالمي
يؤمن الرئيس ترامب بأن الحفاظ على سلاسل الإمداد من النفط والغاز ضرورة للاقتصاديات العالمية، وفي المقدمة منها الاقتصاد الأمريكي، وتقترب اتفاقيات الطاقة التي وقعها ترامب أثناء جولته الخليجية لنحو تريليون دولار منها 440 مليار دولار مع دولة الإمارات وحدها، وهناك تشابه بين الرؤية الخليجية ورؤية ترامب حول التحول «المخزون الآمن والمحسوب» من الطاقة القديمة والأحفورية إلى الأنماط الجديدة من الطاقة النظيفة، فبسبب سياسات الديمقراطيين جرى إهمال اكتشاف النفط والغاز في الولايات المتحدة، وتم التسويق للتخلص من مصادر الطاقة التقليدية في أقرب وقت، لذلك ادعى الديمقراطيون أن القيمة النسبية للنفط العربي تراجعت، لأن العالم سوف يعتمد على الطاقة الجديدة والمتجددة في المستقبل ولن يحتاج كثيراً إلى النفط والغاز العربي، وسبق ذلك في عهد باراك أوباما القول إن الولايات المتحدة أصبحت «مصدرة للنفط منذ عام 2016، وأصبحت مصدراً صافياً للنفط» في عام 2018، لذلك عمل الديمقراطيون بكل قوتهم للتخارج والخروج من الشرق الأوسط بادعاء أن الشرق الأوسط والمنطقة العربية لا يأتي منها سوى المشاكل التي تأخذ جهد وموارد كثيرة من الجيش والدبلوماسية الأمريكية، لكن للرئيس ترامب رؤية أخرى تقول إن التحول الكامل نحو الطاقة النظيفة لن يتم قبل عام 2040 أو 2045، وحتى لا تحدث أي مشاكل أو فجوة «في مرحلة التحول» في إمدادات الطاقة العالمية لا بد من التعاون الوثيق مع دول الخليج العربي التي لا تزال في المقدمة من حيث الاستثمار والاستكشاف والإنتاج والتصدير للنفط والغاز في العالم، وهو ما يشكل الشريان الحيوي والضمان الحقيقي لديمومة تدفق الطاقة لكافة الاقتصاديات العالمية من دون استثناء، لكن أيضاً تكشف تفاصيل اتفاقيات الطاقة التي وقعها الرئيس ترامب في جولته الخليجية عن أن الدول الخليجية في مقدمة العالم ليس فقط في إنتاج النفط والغاز؛ بل في إنتاج كافة أشكال وأنماط الطاقة الجديدة والمتجددة، فالشراكة الإماراتية الأمريكية في مجال طاقة المستقبل غير مسبوقة، وتغطي مجالات حيوية مثل الهيدروجين الأخضر والأمنيا الخضراء والتقاط الكربون، وهو ما يؤكد أن هناك قراءة أمريكية جديدة لملف الطاقة في الخليج العربي تختلف تماماً عن التصور الذي كان يتبناه الديمقراطيين.
ثانياً: افتراض خاطئ
افترضت السياسات الأمريكية في عهد أوباما وبايدن أن الممرات الملاحية الحيوية في المنطقة العربية والخليج العربي ممرات آمنة حتى من دون الوجود الأمريكي في المنطقة، وهي فرضية ثبت أنها خاطئه، لأنه منذ سيطرة الحوثي على صنعاء في 21 سبتمبر 2014 كان تهديد الملاحة يلوح كل يوم، وعلى الرغم من ذلك واصل الديمقراطيون سياسة الانسحاب التدريجي و«الاتجاه شرقاً» والابتعاد عن الشرق الأوسط والمنطقة العربية بالادعاء أن المخاطر المحيطة بمضيق وخليج «ملقا» الذي يربط المحيطين الهندي والهادئ أشد خطورة من الأخطار التي يمكن أن تكون في الشرق الأوسط وخليج هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، لكن ما جرى منذ أحداث 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم أثبت خطأ هذا الافتراض بعد التهديد الحوثي الواضح للملاحة البحرية، و توقف العديد من الخطوط الملاحية الدولية عن استخدام الممرات العربية مثل خليج عدن والبحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس، والاتجاه إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما اضطر الولايات المتحدة في النهاية للتدخل بنفسها عسكرياً لحماية الملاحة في البحر الأحمر بقصف الحوثيين لقترة تزيد على شهر ونصف قبل أن يتوصل ترامب لاتفاق مع الحوثيين بعدم استهداف الملاحة الدولية والسفن الأمريكية، ويشكل التحذير الأمريكي بالعودة لمسار قصف الحوثيين بمنزلة تأكيد على بقاء وعودة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من جديد خصوصاً أن ذلك يتزامن مع زيادة في عدد ونوعية الأدوات الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
ثالثاً: ليس عبئاً
الادعاء السابق أن الشرق الأوسط والإقليم العربي يشكلان «عبئاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً» على الولايات المتحدة ثبت أنه غير صحيح؛ بل على العكس أثبتت جولة ترامب أن الشرق الأوسط «فرصة استراتيجية» لأي قوة عظمى، فمتوسط الإنفاق العسكري في دول الخليج والدول العربية عموماً يزيد على 2% من الناتج القومي، وهي النسبة التي ظل كل الرؤساء الديمقراطيون والجمهوريون يطالبون بها حلفاءهم في حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» منذ قمة «الناتو» في ويلز عام 2014، كما أن الرؤية الصحيحة لترامب لمنطقة الخليج هي التي قادت إلى توقيع أكبر اتفاقية عسكرية في التاريخ بـ 142 مليار دولار بين واشنطن والرياض في عهد ترامب، لكن الأهم أن تاريخ الدول العربية والخليجية يقول إنها «مصدر وقوة للاستقرار» وتسعى إلى تبريد الصراعات وتهدئة التوترات واحترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يجعل التعاون مع الدول الخليجية بمنزلة «قيمة مضافة سياسياً» للعودة والاستدارة الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط.

رابعاً: مغانم الشرق الأوسط
أخطأت الحسابات الأمريكية السابقة عندما قرأت فقط المغانم الاقتصادية في تعزيز العلاقات مع أقصى شرق آسيا على حساب الشرق الأوسط وفي القلب منه المنطقة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي الـ6، فخلال الفترة التي أطلق عليها البعض «الانسحاب الأمريكي» من الشرق الأوسط أصبحت الصين هي الشريك التجاري للإقليم العربي منذ عام 2019، لكن قيام ترامب بأول جولة خارجية له في ولايته الثانية لدول الخليج أعاد التأكيد على تصحيح الرؤية الأمريكية؛ حيث لا تزال الدول العربية والخليجية تمثل «فرصة ذهبية» لتعاون متكافئ ومتوازن وعادل بين الولايات المتحدة ودول الخليج، ويكفي الإشارة الى مثال واحد وهو أن دولة قطر تعاقدت على شراء طائرات مدنية خلال زيارة ترامب بنحو 200 مليار دولار، وهو ما يؤكد أن المنطقة العربية والخليج سوف يمثلان على المدى البعيد فرصة كبيرة لكل من يسعى إلى بناء شراكة حقيقية مع شعوب المنطقة، كما أن الاسثمارات الخليجية السابقة والتي تم الإعلان عنها خلال جولة ترامب تفوق أي استثمارات من دول شرق آسيا في الأسواق الأمريكية، وهو ما يؤكد من جديد خطأ المعادلات السابقة التي كانت تروج لرؤية «الاستدارة شرقاً» على حساب العلاقات التاريخية بين واشنطن ودول الإقليم العربي.

خامساً: ترحيل الصراعات
اعتمدت رؤية الديمقراطيين في الخروج من الشرق الأوسط والاتجاه نحو شرق آسيا على أن المنطقة العربية والقوى الإقليمية المحيطة بها في حالة سكون سياسي وعسكري، ويمكن تجميد الصراعات أو ترحيلها لحين وجود روافع وأدوات جديدة تحل هذه المشاكل بنفسها، وتبنى الرؤية الأمريكية السابقة أنه بعد ما يسمى بالربيع العربي باتت إسرائيل في أمان كامل، والملف الإيراني يمكن أن يبقى كما هو، لكن تأكد أن هذا غير صحيح فأحداث 7 أكتوبر وما تلاها أثبت أن الشرق الأوسط لا يزال يغلي، وأن الملف الإيراني يحتاج إلى عودة بدبلوماسية جديدة.
سادساً: قيم مشتركة
كان التصور الأمريكي في عهد أوباما تحديداً أن القيم الأمريكية لا تتفق ولا تتشابه مع قيم دول الشرق الأوسط، وعندما شكل جو بايدن ما أسماه بـ «تحالف القيم» لم يضم إليه أي دولة من الشرق الأوسط، لكن انظر كيف يتحدث ترامب عن القيم والأعراف السياسية العربية، فيعتبرها نموذجاً في البناء والتنمية والاستقرار السياسي تحترمه وتقدره أمريكا، وقال بكل صراحة أمام منتدى رجال الأعمال بالسعودية إن الدول العربية لا تحتاج إلى دروس ووعظ من الخارج.
«تحصين» المصالح والعلاقات
تحليل الاتفاقيات التي وقعتها الدول الخليجية أثناء جولة ترامب تقول كلها إن الاتفاقيات ذات مدى بعيد واستراتيجي تمتد لعشرات السنوات، ما يضمن ويحصن العلاقات الأمريكية الخليجية في المستقبل بما يحافظ على تلك الخصوصية في العلاقات بين واشنطن والدول الخليجية.
ثلاثة معتقدات «ديمقراطية» ثبت خطؤها
1 ـ تراجع قيمة النفط
2 ـ استقرار المنطقة ثابت لعقود
3 ـ الشرق الأوسط يرهق الدبلوماسية الأمريكية