ليس الفلسطينيون وحدهم، ولا المنظمات الدولية، من يتهم إسرائيل بقتل الأطفال في غزة ك «هواية»، بل جاء الاتهام، هذه المرة، من الإسرائيليين أنفسهم، لا بل من زعيم حزب الديمقراطيين يائير غولان، الذي هو وريث حزب العمل التاريخي مؤسس «إسرائيل».
وهو ليس الاتهام الأول من هذا القبيل لإسرائيل، فقد سبقت غولان قيادات سياسية وعسكرية سابقة، بينها وزير الجيش ورئيس الأركان السابق، موشيه يعلون، أن وجهوا اتهامات لحكومة اليمين المتطرف، لا تقل خطورة عن تهمة قتل الأطفال، مثل التطهير العرقي وغيرها. ولسنا بحاجة إلى تقديم أدلة على هذه الاتهامات، فهناك حقيقة لم تعد تقبل النقاش، وهي أن أكثر من 17 ألف طفل فلسطيني قتلوا في الحرب الإسرائيلية على غزة، وهناك شهادات جنود إسرائيليون، رغم محاولات طمس بعضها، ومنظمات أممية ودولية، وشواهد أكثر من أن تحصى على قتل الأطفال. وإلا كيف نفسر محو آلاف العائلات الفلسطينية من الوجود ومن السجل المدني، أو هدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، أو استهداف المدارس وخيام النازحين.
لكن أهمية اتهامات غولان التي أثارت عاصفة سياسية في إسرائيل، أنها تأتي في توقيت حساس للغاية، وفي خضم عملية عسكرية تسمى «عربات جدعون» لاحتلال قطاع غزة، وتحمل مضموناً دينياً تاريخياً يقوم على سردية قتل كل «الأعداء» صغيراً وكبيراً، وتدمير البشر والشجر والحجر لتحقيق «الانتصار الساحق والمطلق». وهي تأتي أيضاً في لحظة فارقة، بين جهود دولية تسعى للتوصل إلى اتفاق شامل ينهي الحرب، ويؤدي لإبرام صفقة تبادل للأسرى، وفتح أفق لتسوية سياسية، تعيد الأمن والاستقرار للمنطقة، وبين من يتمسك باستمرار الحرب لأسباب سياسية وشخصية بذريعة تحقيق أهدافها التي لم تتحقق طوال ال 19 شهراً الماضية. هذه الحرب، التي تحولت بكل ما فيها من ويلات وقتل وتدمير و«إبادة» وتجويع، إلى عبء على الجميع، ودفع بالتالي أقرب حلفاء إسرائيل وداعميها التاريخيين، من الأمريكيين والأوروبيين، إلى المطالبة بوقفها، بل وذهب بعضهم إلى التهديد بفرض عقوبات عليها.
بطبيعة الحال، لم يكن غولان وهو يطلق تصريحاته يقصد العمل لصالح الفلسطينيين والعرب، بقدر ما كان يريد تخليص إسرائيل من نفسها، ومن حكومة متطرفة تأخذها إلى قعر الهاوية. فهو لا يريد أن تتحول إسرائيل إلى دولة «منبوذة» على غرار ما كانت عليه جنوب إفريقيا سابقاً، إذا لم تعد إلى التصرف كدولة «عاقلة»، وربما كان يريد إسماع العالم أنه لا يزال هناك مكان لصوت العقل، عبر مخاطبة حكومة اليمين المتطرف التي حسب قوله، «تعج بالأشخاص المنتقمين، الذين يفتقرون إلى الأخلاق والقدرة على إدارة البلاد في حالات الطوارئ»، بأن «الدولة العاقلة لا تشن حرباً على المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تضع أهدافاً لتهجير السكان». ومع ذلك قامت الدنيا ولم تقعد، وانهالت الانتقادات عليه يميناً ويساراً، حتى أن البعض رأى في تصريحاته، وقوداً لنيران «معاداة السامية» في أنحاء العالم.
مقالات أخرى للكاتب



