الشارقة: رضا السميحيين
يعتبر فن الخط العربي الذي انبثق من رحم اللغة، وتجاوز حدود التدوين إلى فضاءات التشكيل البصري، أحد أبرز معالم الهوية الجمالية والثقافية للعالم العربي والإسلامي. فمنذ أن خطّت الأقلام أولى آيات المصحف، بات الحرف العربي أكثر من كونه رمزاً صوتياً إذ أصبح وعاء للجمال، وحاملاً للمعاني المقدسة، وبات للخط حضور مميز بين لغات العالم، بوصفه فناً جمالياً سامياً، يختزن في طياته روح الحضارة الإسلامية، ويمتد في جذوره إلى الحرف الأول والنقطة الأولى.
«رب همة أحيت أمة»، هي لوحة خطية للخطاط الدكتور محمد فاروق الحداد، وهي عبارة عن حكمة شائعة في التراث العربي، في هذه اللوحة الفنية تتعانق الكلمات على سطح الورق، لتحمل في جوهرها دلالات عميقة، تنتمي إلى ذخائر الحكمة العربية التي طالما مجدت الفعل الفردي حين يتحول إلى طاقة تغيير جماعية، تعيد تذكيرنا بأن الأمم لا تنهض بالعدد أو العتاد فقط، بل بوهج الهمم الفردية الصادقة والمخلصة التي تحمل رسالة وتحركاً تاريخياً.
العبارة تحتفي بـ«الهِمة» بوصفها جوهر النهوض ومحرك التغيير، في تشبيه مجازي يضع الهمة الفردية في مرتبة «المنقذ الجمعي»، القادر على إحياء أمة بأسرها، هذا التوظيف اللغوي البليغ يلتقي فيه الإيجاز بالتكثيف المعنوي، وتستحضر القيم الأخلاقية السامية من خلال تركيب نحوي بسيط، لكنه مشحون بالقوة.
تكوين
اختار الخطاط فاروق الحداد لكتابة اللوحة خط الثلث الجلي المركب، لتعيدنا أنامله إلى أحد أعرق وأجمل الخطوط العربية، الذي يمتاز بمتانته ومرونته وقدرته على احتواء التكوينات المعقدة من دون أن يفقد اتزانه أو جماله، والتي تمنح العين وقاراً و تستدعي القلب للتأمل والتفكر، وقد جاء اختيار هذا الخط على الأرجح ليتماشى مع دلالة المعنى ورصانته، فالثقل المفاهيمي للعبارة يوازيه ثقل بصري في التكوين الحروفي.
يمكن للمتأمل في هذه اللوحة أن يلاحظ التوازن البصري الدقيق الذي يحققه الخطاط في كتابته التي تسير على خط أفقي، تتداخل فيها حروف الكلمات، مع توازن صارم بين الحروف المرتفعة والمنخفضة، وبين الانحناءات الدقيقة والامتدادات الطولية للحروف، مثل حرف «الحاء» في كلمة «أحيت» والذي جعله الخطاط نقطة ارتكاز في لوحته مع ميل واضح نحو التناظر الفني يتجلى ذلك في استطالة حرف «الألف» المتماثلة في كلمتي «أحيت» و«أمة»، حيث تتوزع الكتل الحروفية بطريقة تحافظ على مركز بصري متوازن، لا يطغى فيه جانب على آخر، وهذا يعكس قدرة الخطاط على المزج بين الإبداع الفني والانضباط البنيوي، إذ تبدو الحروف وكأنها تتناجى، وتتحرك في انسجام داخلي خفي.
وجاء توظيف الخطاط للحركات والتشكيل في اللوحة باللون الأحمر، والتي لم يضفها لغرض التوضيح الصوتي في لفظ الحروف، بل جاءت كعنصر زخرفي يرفد الجمال العام، ولتضيف أبعاداً صوتية وبصرية مبدعة، تؤكد أن التشكيل في الخط العربي لا يعتبر تفصيلاً ثانوياً، بقدر ما هو جزء من النسيج الفني، من دون أن يفرط في الزخرفية.
روح التراث
الخلفية المستخدمة في اللوحة ذات الطابع الورقي المعتق، بلونها الترابي المحايد، تضفي على اللوحة روحاً تراثية، وتعيدنا إلى أجواء المخطوطات القديمة، حيث كتبت الكلمة لتبقى أبد الدهر، هذا الخيار اللوني يعزز من قيمة الرسالة، ويمنح المشاهد إحساساً بعبق الماضي وعمق المعنى، أما اللون الأسود المستخدم في الحروف، فقد اختير ليمثل الثبات والوقار، بينما جاءت لمسات التشكيل الأحمر لتكسر الرتابة اللونية، وتضيف بعداً تعبيرياً عاطفياً للوحة، بأن الأمل الحقيقي يبدأ من الداخل من همة فرد يؤمن بقدرته على البناء، كما أن توظيف تجليات الخط العربي هنا تجاوز كونه فناً زخرفيا، ليغدو وسيلة تعبير حضاري، يوصل الرسائل الإنسانية بلغة فنية تجمع بين العراقة والحداثة، معبرة عن تراث لغوي وفني عظيم.
إضاءة
د. محمد فاروق الحداد تلقى دروسه في الخط العربي على يد عدنان الشيخ عثمان، وفاز بالعديد من الجوائر الدولية والعالمية وكان أولها وهو في سن 17 عاماً، وشارك في مسابقات الخط الدولية التي تنظمها منظمة «إرسيك» في إسطنبول بإشراف منظمة المؤتمر الإسلامي منذ عام 1993، وحصد 15 جائزة دولية في المراكز الأولى في خطوط الثلث والثلث الجلي والديواني الجلي في إسطنبول والإمارات والجزائر والسعودية.