خالد راشد الزيودي*
عندما وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جامعة السوربون العريقة، في الخامس من مايو/ أيار الجاري، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، معلناً تخصيص مبالغ ضخمة لاستقطاب العلماء والباحثين، بدا واضحاً أن أوروبا قررت استثمار التحولات التي تشهدها الولايات المتحدة في مجال البحث العلمي، لإعادة تقديم نفسها كمركز عالمي للابتكار العلمي والمعرفي.
هذه الخطوة الأوروبية لم تأتِ من فراغ، فقد أثارت القرارات الأخيرة للإدارة الأمريكية الحالية، برئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جدلاً واسعاً في الوسط العلمي الأمريكي، بسبب تقليص الميزانيات وتجميد برامج علمية متعددة، وتسريح عددٍ كبير من الباحثين والعاملين في المؤسسات العلمية الأمريكية. والأهم من ذلك، كانت التوجهات الجديدة التي رافقت هذه القرارات، كفرض قيودٍ على الموضوعات التي يمكن للعلماء البحث فيها، خصوصاً في مجالات مثل المناخ والتنوع الاجتماعي والبيئي.
وكانت المفوضية الأوروبية سبّاقةً في استثمار هذه التطورات، فقد أعلنت تخصيص 500 مليون يورو بين عامي 2025 و2027، لاستقطاب العلماء والباحثين الراغبين في الانتقال إلى أوروبا. وبدورها خصصت فرنسا منفردة 100 مليون يورو إضافية لدعم العلماء وتوفير فرص عمل ملائمة لهم في مؤسساتها العلمية، في خطوةٍ تعكس جدية أوروبا في استعادة موقعها كمركز علمي عالمي.
وتأتي هذه المبادرات في سياق تحوّلٍ مهم في الاتجاه التقليدي لهجرة العقول، فبعد عقود طويلة كانت خلالها الولايات المتحدة الوجهة المفضلة للعلماء من جميع أنحاء العالم، باتت أوروبا اليوم تنافس بقوة لاستقطابهم، مستفيدة من الظروف الجديدة في أمريكا، ومن المناخ الأكاديمي الفعّال والمتماسك الذي توفره الجامعات ومراكز البحث الأوروبية.
ففي مارس/ آذار الماضي، قدّمت جامعة إيكس مارسيليا الفرنسية برنامجاً خاصاً تحت شعار «مكان آمن للعلم»، حيث تلقت خلال شهر واحد فقط نحو 298 طلباً من علماء أمريكيين، تم قبول 242 منهم، بينهم 135 مواطناً أمريكياً و45 من حاملي الجنسية المزدوجة. هذه الأرقام تشير إلى جدية العلماء الأمريكيين في الانتقال إلى أوروبا، وتعكس في الوقت ذاته حجم الفرصة التاريخية التي تنتظر القارة الأوروبية.
تسعى أوروبا إلى استقطاب الباحثين في تخصصات حيوية واستراتيجية، من أبرزها الصحة والتغير المناخي والتنوع البيولوجي، بالإضافة إلى علوم الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء والزراعة. ولتحقيق هذا الهدف، تعمل الدول الأوروبية حالياً على تبسيط إجراءات انتقال العلماء وتوفير تأشيرات سريعة ومنح إقامة طويلة الأمد، مع إيلاء اهتمام خاص بدعم الباحثين الشباب الذين لا يزالون في المراحل الأولى من مسيرتهم المهنية، لضمان استمرارية الابتكار وضخ دماء جديدة في مؤسساتها العلمية.
ولا تقتصر المبادرة الأوروبية على التمويل المالي فقط، بل تشمل أيضاً تسهيل الإجراءات الإدارية لمنح التأشيرات والإقامات للعلماء، حيث تدرس بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وهولندا والسويد إصدار جواز سفر علمي يمنح الباحثين وضعية خاصة لتسهيل تنقلهم وإقامتهم داخل أوروبا، وهو تطور غير مسبوق في التعامل مع العلماء والباحثين.
واللافت في هذا التحرك الأوروبي أنه لم يعد محصوراً في دولٍ منفردة، بل أصبح توجهاً عاماً يحظى بدعم قوي من الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، في ظل إدراك حقيقي لأهمية العلم والبحث كركيزة أساسية للنمو الاقتصادي والتكنولوجي والمكانة الدولية.
وفي المقابل، فإن التغيرات الجارية في المناخ الأكاديمي الأمريكي ربما تؤدي، على المدى البعيد، إلى تراجع المكانة العلمية للولايات المتحدة التي كانت تتمتع بها على مدار العقود الماضية. فالولايات المتحدة، التي تنفق حالياً نحو 3.5% من ناتجها الإجمالي على البحث العلمي، مقابل نحو 2.5% في معظم دول أوروبا، قد تجد نفسها أمام تحدياتٍ جديدة تتمثل في فقدان الكفاءات العلمية، وما قد يصاحبه من تباطؤ في وتيرة الابتكار.
لكن أوروبا، رغم التحديات التي تواجهها، مثل البيروقراطية أو اختلاف اللغات، تدرك جيداً أهمية توفير مناخ أكاديمي فعّال يتمتع بالاستقرار، وتوفير بيئة مريحة للباحثين الذين يطمحون لتحقيق إنجازاتهم العلمية دون عوائق مالية أو إدارية.
في المحصلة، ربما تقف أوروبا اليوم على مفترق طرق حقيقي، فالقارة التي عانت طويلاً من نزيف العقول نحو الولايات المتحدة، قد تكون اليوم أمام فرصة تاريخية لاستعادة المبادرة، وإعادة تعريف دورها كقوة علمية كبرى. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل تستمر الولايات المتحدة في سياساتها الحالية، أم أنها قد تدرك حجم الخسارة المحتملة، فتسارع إلى تعديل المسار؟
الإجابة عن هذا السؤال ستحدد بلا شك شكل التنافس العلمي العالمي خلال العقود المقبلة. والأكيد أن أوروبا، بكل ما تملكه من إمكاناتٍ علمية وإرثٍ ثقافي عريق ومناخٍ أكاديمي فعّال، لن تضيّع هذه الفرصة الثمينة لإعادة تشكيل المشهد العلمي العالمي.
وفي ظل المناخ الأكاديمي الأوروبي الذي بات اليوم أكثر استعداداً من أي وقت مضى، عبر برامج تمويل مستقرة وإجراءات إدارية ميسرة، تساعدهم على إطلاق طاقاتهم العلمية في أجواء تشجع التعاون بين المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث، تبدو أوروبا الوجهة المثالية لهؤلاء العلماء لاستثمار إبداعاتهم وتحويل رؤاهم العلمية إلى واقع يسهم في تعزيز مكانتها على الخريطة العالمية للعلوم والتكنولوجيا.
*باحث دكتوراه في إدارة الأزمات والمخاطر