بريطانيا بين فكي كماشة أوروبا وأمريكا

00:52 صباحا
قراءة 4 دقائق

تواجه حكومة حزب العمال في بريطانيا ورئيس الوزراء كير ستارمر تحديات ومشاكل داخلية مهمة، ليس أقلها بل ربما أكثرها تأثيراً انتخابياً ارتفاع تكاليف المعيشة للأسر البريطانية دون ثقة من الجماهير في أن سياسة الحكومة يمكن أن تؤدي إلى تحسن الأوضاع، لذا أظهر أحدث استطلاع للرأي تقدم حزب اليمين المتطرف بزعامة نايجل فاراج على حزب العمال الحاكم وحزب المحافظين المعارض.
ما يثير السخرية، أن الحزب اليميني يرفع شعار أنه «مع الطبقة العاملة» في بريطانيا في الوقت الذي يفترض أن حزب العمال تقليدياً هو المدافع عن مصالح العمال والطبقة الوسطى. لكن ذلك تغير منذ تغيير توني بلير وجوردون براون توجه الحزب في منتصف تسعينات القرن الماضي نحو الوسط واستمر هذا التوجه حتى أصبحت حكومات العمال تنفذ سياسات يراها البريطانيون ضاغطة عليهم أكثر مما تفعل حكومات المحافظين.
حتى محاولات حكومة ستارمر للمزايدة على اليمين واليمين المتطرف بطرح سياسات جديدة للهجرة جاءت بنتائج عكسية لأنها تضيق الخناق على وصول العمالة الماهرة من الخارج أكثر مما تقلل أعداد المهاجرين الذين يشكلون عبئاً على الخدمات ونظام الرعاية في البلاد. في المقابل وإلى جانب زيادة الضرائب تستمر وزيرة الخزانة راتشيل ريفز في سياسات التقشف التي تقتص من مخصصات الإعانة للأسر الفقيرة ولكبار السن المتقاعدين.
إنما في ظل كل ذلك، حظيت حكومة العمال بإنجازات إيجابية مهمة شغلت عناوين الأخبار في الأسابيع الأخيرة، فقد وقعت بريطانيا أول اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية على كل شركاء بلاده ثم أجَّل تنفيذها لثلاثة أشهر تنتهي بنهاية الشهر المقبل. صحيح أنها اتفاقيات جزئية وليست اتفاق تجارة حرة شاملاً كالذي كانت تسعى إليه حكومة حزب المحافظين السابقة، لكنه إنجاز رمزي يمثل دعماً لجهود الحكومة نحو إنعاش الاقتصاد المتعثر.
وقبل أيام تمكنت حكومة ستارمر من التوصل إلى تعديل اتفاق خروج بريطانيا من أوروبا (بريكست) بما يفترض أن يزيد حجم التجارة بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
إلا أن هذين الإنجازين على الصعيد الاقتصادي لم يحققا للحكومة ما كانت تتوقعه من تخفيف حدة الانتقادات الداخلية لأدائها. فتعديل اتفاق بريكست تضمن تنازل بريطانيا في ما يتعلق بحق السفن الأوروبية بالصيد في المياه البريطانية وهو ما انتقده أنصار بريكست من اليمين واليمين المتطرف وإن كانت التعديلات وفرت ميزات تجارية مهمة لبريطانيا مع شريكها التجاري الأكبر.
أما الاتفاق مع أمريكا فلم يؤدِ إلى إلغاء التعريفة الجمركية عن الصادرات البريطانية بنسبة 10% وان كان خفض التعريفة الجمركية على صادرات الصلب والسيارات.
في المقابل تعهدت بريطانيا بتسهيل وصول الشركات والأعمال الأمريكية للسوق البريطانية بتخفيف القواعد والقيود وتساهلت في استيراد منتجات زراعية وغذائية أمريكية كانت محظورة من قبل لاعتبارات السلامة الصحية.
لم يحظ الاتفاق الجزئي مع واشنطن بالترحيب الشديد من جانب البريطانيين، رغم استفادة قطاع صناعة السيارات والصلب والألومنيوم وقلل كثيرون من أهميته، حتى إن الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغلتس وصفه بأنه «لا يساوي قيمة الورق الذي كتب عليه». أما الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي على تعديل بعض بنود اتفاق بريكست، فرغم إيجابيته الكبيرة للبريطانيين إلا أن انتقادات السياسيين المعارضين قللت من الأثر الذي كانت تتمناه حكومة ستارمر.
تبقى المشكلة الأهم والمؤجلة حالياً، هي أن تقع الحكومة البريطانية بين «كماشة» فكيها أوروبا وأمريكا، فتعديل اتفاق بريكست يعني عودة بريطانيا إلى الالتزام ببعض المعايير الأوروبية، خاصة في مجال المنتجات الزراعية والغذائية وهي القيود التي أرادت بريطانيا التحرر منها بخروجها من الاتحاد.
من ناحية ثانية، فإن تلك المعايير الأوروبية تجعل التوصل لاتفاقية تجارية مع أمريكا شبه مستحيلة. فحسب المعايير الأوروبية لن تستطيع بريطانيا استيراد منتجات زراعية أمريكية معدلة وراثياً، كما أن استيراد الدجاج الأمريكي المعالج بالكلورين لن يكون ممكناً.
تلك الحيرة بين أمريكا وأوروبا في مجال التجارة والاقتصاد تعكس سمة عالمة لحكومة كير ستارمر منذ توليها السلطة صيف العام الماضي عقب فوزها الساحق على حزب المحافظين في الانتخابات فرغم الوعود الانتخابية بتحقيق النمو الاقتصادي واعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية عادلة إلا أن الواقع جاء غير ذلك ولم تفلح مبررات إلقاء اللوم على الحكومات السابقة في إقناع البريطانيين بأن هذه حكومة «تغيير» حقيقي.
نتيجة عدم وجود برنامج واضح وحدد لمواجهة مشاكل البلاد المتراكمة تسعى الحكومة للقيام بعمليات «ترقيع» علها تسد ثغرات التراجع، في الوقت نفسه تقدم الحكومة نفسها على أنها مدافعة عن المستثمرين والأعمال كي تدفع نحو نمو النشاط الاقتصادي.
وما هذا المأزق بين أوروبا وأمريكا إلا أحد أعراض ذلك التوجه الذي يدفع حتى بعض نواب حزب العمال الحاكم للاعتراض على سياسات الحكومة وهناك الآن أكثر من ستين نائباً من نواب الحزب في مجلس العموم يعترضون على سياسات رئيس الوزراء ووزيرة الخزانة وبقية فريق الحكومة.

[email protected]

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"