تعرف الدول الغربية تحولات لافتة على مستوى نظام مؤسساتها لاسيما ما تعلق منها بالمؤسسة القضائية، ويذهب الملاحظون إلى أن القضاء بدأ يلعب أدواراً تتجاوز حدود صلاحياته الدستورية ويقلص بشكل كبير من سيادة الناخبين لمصلحة القضاة، والأمر لا يتعلق فقط بحماية دولة الحق والقانون كما تنص على ذلك التشريعات، ولكن بالتدخل المتزايد للقضاة في مهام السلطة التنفيذية ومحاولة الانتصار أحياناً لطرف على حساب أطراف أخرى، الأمر الذي يدفع بعض السياسيين إلى التأكيد على أن التربية الاجتماعية والانتماء السياسي للقضاة يؤثر بشكل واضح في توجيه نشاطهم المهني ويتدخل في صياغة قراراتهم القضائية بالشكل الذي أضحى يؤثر سلباً في الممارسة السياسية بالغرب.
يشير بيرند روثرز إلى أننا نعيش وضعية تتميز بإضفاء مزيد من الطابع القضائي على مجمل النشاط الإنساني، وأخذ هذا الطابع دور القائد والموجِّه، كما جعل هذا التحوّل غير المُعلن القاضي يمارس مهام المشرِّع، وأصبح بذلك القانون القضائي مصدراً للقانون بشكل عام، الأمر الذي دفع بعض المنظرين إلى القول: إن دولة القانون المعاصرة أنجبت دولة عدالة جديدة، يشكل بموجبها القضاة سلطة موازية للسلطة التنفيذية وليس مجرد منفذين للتشريعات القضائية، بل ينتقلون من خانة السلطة غير المرئية وغير الفاعلة إلى مستوى السلطة الأكثر قوة. تتحدث أدبيات الفكر السياسي عن حكم القضاة بمصطلح «ديكاستوكراسي» في تعارض مزدوج مع الديمقراطية والديكتاتورية على حد سواء، ولا يتعلق الأمر بشكل من أشكال الحكم ولكن بحالة مجتمعية تكون فيها السلطة القوية من نصيب السلطة القضائية، وغالباً ما يكون مصطلح «حكومة القضاة» تعبيراً عن نقد مبطّن لتوجه سياسي معاصر يهدف إلى السماح للجهات القضائية باتخاذ قرارات هي في الأصل من صميم صلاحيات الجهات السياسية، ويجري تحديد الحركية القضائية على أنها نشاط يهدف إلى تحقيق استقلالية القضاء في علاقته بالسلطة السياسية وعادة ما يؤدي نضال القضاة الهادف إلى التخلص من هيمنة السياسيين للسقوط في غواية ممارسة سلطة تتجاوز حدود ما تسمح به دولة القانون، من خلال تكثيف النشاط السياسي للقضاة سواء تعلق الأمر بالنشاط النقابي أو بمحاولة توظيف صلاحيات المراقبة القضائية للتأثير في النشاط السياسي لمؤسسات الدولة والمجتمع.
يؤكّد الباحث الفرنسي آلان مانك في قاموسه حول السلطة أن العدالة تشير إلى السلطة التي تكون فوق كل شيء وبالتالي فإنه وبعيداً عن التعريفات الحصيفة التي نجدها عند مونتسكيو والدستور الأمريكي والنصوص المؤسِّسة لدولة القانون، هناك واقع يتحرك ويتمثل في تملك تدريجي للسلطة من طرف القضاء على حساب المؤسسات الأخرى، وهذه الظاهرة لا تقتصر على فرنسا حيث نجد لها تجليات مماثلة في ألمانيا وبريطانيا وبقية الدول الغربية مع نوع من الخصوصية بالنسبة للولايات المتحدة بحكم تقاليد الفصل بين السلطات التي ترسخت منذ استقلال واشنطن عن العرش البريطاني، والأمثلة المعبّرة عن هذه الوضعيات كثيرة ومن أبرزها تدخل العدالة من أجل منع حكومة إسكتلندا من إجراء استفتاء دون موافقة مجلس العموم البريطاني.
ويعزو مانك هذه الظاهرة المتمثلة في تمدّد سلطة القضاء، إلى تراجع السلطتين التنفيذية والتشريعية في مجمل الدول الغربية إضافة إلى تراجع مستوى الطبقة السياسية وتركها لمساحات فراغ كبيرة، لم تجد السلطة القضائية من خيار آخر سوى محاولة ملئها لأن الطبيعة تأبى الفراغ، ومن ثم فقد باتت السلطة القضائية تتحوّل إلى حكم للقضاة في تعارض واضح مع قواعد الدستور، والحال أنه وعِوض أن تمارس السلطة القضائية دورها الطبيعي والمتوازن بوصفها سلطة مضادة تهدف إلى منع السلطة التنفيذية من الاستبداد والمبالغة في ممارسة صلاحيتها، فإنها تسقط هي نفسها في غواية الممارسة المتطرفة للسلطة.
وقد شهدت الولايات المتحدة حالات عديدة من تدخل السلطة القضائية في شؤون الممارسة السياسية حيث ألغت المحكمة العليا سنة 1803 قوانين تنفيذية اعتبرتها غير دستورية وسمحت المحاكم الأمريكية لنفسها في بعض الحالات بالتشريع بدلاً من السلطة التشريعية، واعتبر الرئيس الحالي دونالد ترامب التهم التي وجهها إليه القضاء قبل الانتخابات الأمريكية تدخلاً غير مشروع في مسار الممارسة السياسية والديمقراطية في أمريكا. ورأى كثير من المتابعين للسياسية الفرنسية في مجريات محاكمة الرئيس الأسبق ساركوزي تحاملاً للقضاة ضده، كما جرى وصف محاكمة القضاء الفرنسي لزعيمة التجمع الوطني مارين لوبان بأنها محاكمة سياسية وتجاوز من طرف السلطة القضائية لصلاحياتها.
ومن الواضح أن الدول الغربية انتقلت في وقت وجيز من مرحلة كان يرى فيها شارل ديغول أن السلطة القضائية تعاني تدخلات السلطة التنفيذية، إلى مرحلة صار يمتلك فيها القضاة السلطة القصوى، ويتعلق الأمر الآن في نظر المراقبين بمحاولة إعادة التوازن بين السلطات الدستورية لاسيما السلطتين التنفيذية والقضائية وفق آليات أكثر احتراماً لدولة الحق والقانون بالشكل الذي يضمن استمرار سلطات مضادة في مواجهة السلطة التنفيذية التي تحوز على آليات احتكار العنف من طرف مؤسسات الدولة، ويتطلب الأمر صياغة معادلة دقيقة في ممارسة السلطة تعمل على تجاوز حدي الإفراط والتفريط في العلاقة بين السلطات الثلاث.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا
