نبيل سالم
أن يُقتل ويُجرح المئات من المواطنين الفلسطينيين العزل، عند مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، أو بمعنى أدق مصائد الموت الإسرائيلية، كما جرى أكثر من مرة، أمر لم يعد مستغرباً على السياسة التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي منذ إقامة إسرائيل وحتى يومنا هذا، فعلى هذه السياسة، وعلى هذه المجازر، قام المشروع الإسرائيلي الإجلائي في فلسطين، فالعنف الذي ينتهجه الاحتلال الإسرائيلي في الحرب الدائرة، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ليس وليد اليوم، ولا هو نتيجة لهجوم السابع من أكتوبر، وإنما هو أحد المرتكزات الأساسية للسياسة والإيديولوجية الإسرائيلية، التي تكرس نهج القوة السبيل الأوحد للوصول إلى الأهداف الاستعمارية الإسرائيلية، ليس في فلسطين فقط، وإنما في المنطقة كلها، حيث تعتبر الفلسفة الاحتلالية الإسرائيلية أن «قوة التقدم في تاريخ العالم ليست للسلام بل للسيف»، كما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن، وأن «الإمبراطورية الإسرائيلية اليهودية» لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال سحق الآخرين، وهم في هذه الحالة الفلسطينيون والعرب، وإلغاء وجودهم.
وتكمن الخطورة في أن المؤمنين بهذه الأفكار في المجتمع الإسرائيلي ليسوا فئة منعزلة أو محصورة، وإنما هم شريحة واسعة تربت على الأفكار العنصرية، وتستند في ذلك إلى معتقدات دينية وأساطير توراتية، كما جاء في سفر أشعيا الذي يقول: «بقيت أرض للامتلاك كثيرة جداً، كل بقاع الفلسطينيين، وكل أرض كنعان، إلى تخوم الأموريين، وأرض الجبليين، وجميع لبنان، جهة مشرق الشمس، من بعل إلى حرمون، إلى مدخل حماة، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه حشرفوت، كل الصيدونيين سأطردهم من وجه بني إسرائيل، وكل جبل حرمون، وكل باشان (الجولان)»
وإذا ما أخذنا في الحسبان التطرف السياسي، الذي تقوده الحكومة الإسرائيلية اليمينية، فإننا نكون أمام خلطة عجيبة من الأفكار العنصرية، يصعب التعايش معها، لأنها باختصار تقوم على فكرة إلغاء الآخر، التي باتت الظاهرة الأكثر وضوحاً في أيامنا هذه، والتي تترجمها بكل وضوح وصراحة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المتشددين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وأبرز وجوه ائتلافه المتطرف من أمثال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يهدد دائماً بإسقاط الحكومة إذا ما اتجهت نحو إنهاء الحرب على غزة، من دون تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة، أو المستترة، وهي القضاء على المقاومة وتهجير الفلسطينيين القسري، عبر ارتكاب جرائم التطهير العرقي، تمهيداً للاستيطان في قطاع غزة، أما وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، فهو ينادي أيضاً بعدم إيقاف الحرب واستمرار المجازر بحق الشعب الفلسطيني، معتبراً أن إيقاف القتال هو «خطأ تاريخي»، قائلاً وبكل جرأة وصراحة ووضوح إنه «يجب أن تستمر إسرائيل في عمليات السحق ومواصلة الانتصار الكامل». على حد تعبيره، وهو نفس المصطلح الذي يستخدمه نتنياهو في إصراره على استمرار القتال.
والحقيقة أن ما يطرحه الكثير من المسؤولين اليمينيين المتطرفين في «إسرائيل» ليس إلا امتداداً للأفكار التي أسس لها تيودور هرتسل رئيس المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 والذي يقول: «القوة تأتي قبل الحق» وكذلك بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، الذي كان يقول: «إن إسرائيل لا يمكن أن تعيش إلا بقوة السلاح»، أما جابوتنسكي، فيلسوف العنف اليهودي فيرى: «أن السياسة هي فن القوة».
صحيح أن الشعب الفلسطيني يدفع الآن فاتورة قاسية وثقيلة من دماء أبنائه، إلا أن ما يجب استنتاجه من الحرب الهمجية الإسرائيلية هي أنه رغم الخسائر الباهظة التي تكبدها الشعب الفلسطيني المقاوم، فإن هذه الحرب رغم آلامها كشفت الكثير من الحقائق، وهي أن إسرائيل دولة ليست معنية أبداً بالسلام بل بالتوسع والاستيطان وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، تمهيداً لإقامة ما يسمى بإسرائيل الكبرى.
أمام هذا الواقع، يبدو أن المتفائلين بالتوصل إلى وقف للمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مبادرة المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف، ستصدمهم الوقائع على الأرض، لأن الاقتراح الأمريكي، الذي حمل صيغة لوقف إطلاق النار لمدة 70 يوماً مقابل الإفراج المرحلي عن 10 محتجزين، لم يجد طريقه للتنفيذ، بسبب العقبات التي يضعها الاحتلال، ما يعني استمرار المأزق السياسي الذي من شأنه أن يعطل أي تسوية، ولذلك يمكن القول إن اتفاق ويتكوف ولد ميتاً. ولعل «الفيتو» الأمريكي الأخير في مجلس الأمن خير دليل على ذلك.