في زحام المدن، وسط أصوات السيارات، والبنايات المتلاصقة، والروتين اليومي المرهق، ننسى أحياناً أن أجسادنا لم تصمم لهذا النمط من الحياة. نحن نعيش في بيئة حضرية متسارعة، لكننا في الأصل كائنات نشأت في أحضان الطبيعة، في الهواء الطلق، وبين الأشجار والجبال والماء. وربما لهذا، حين نمشي وسط حديقة، أو نجلس قرب البحر، أو حتى ننظر من نافذة تطل على مساحة خضراء، نشعر براحة داخلية يصعب تفسيرها بالكلمات.
الارتباط بالطبيعة ليس ترفاً أو رغبة جمالية، بل حاجة نفسية وفسيولوجية حقيقية. وكشفت الأبحاث الحديثة عن تأثير مباشر للوجود في المساحات الطبيعية على الصحة النفسية والعقلية.
وفق دراسة نشرت في مجلة التقارير العلمية، وهي مجلة علمية محكمة ومفتوحة الوصول تصدرها دار النشر Nature وتغطي أبحاثاً في مختلف فروع العلوم، بعنوان «ارتباط الطبيعة بالصحة الجيدة والرفاهية»، وجد الباحثون أن قضاء ما لا يقل عن ساعتين أسبوعياً في بيئة طبيعية يرتبط بزيادة ملحوظة في الشعور بالسعادة، وتحسّن في الحالة الصحية العامة، بغض النظر عن العمر أو الوضع الاقتصادي أو نمط الحياة.
الأمر لا يقتصر فقط على الشعور بالهدوء، بل يمتد إلى تقليل معدلات التوتر، وخفض ضغط الدم، وتحسين جودة النوم، وتعزيز التركيز والإبداع. الطبيعة تعمل كمنظم نفسي تلقائي، تعيد توازننا الداخلي دون تدخل مباشر، وتخفف من الحمل الحسي الذي تفرضه الحياة الحديثة التي اعتدناها.
من الجدير بالذكر أن هذا التأثير لا يتطلب مغامرات كبيرة أو سفراً طويلاً. مجرد الجلوس في حديقة قريبة، أو التمشية بجانب الأشجار، أو حتى وضع نبات في المنزل أو العمل، يمكن أن يحدث فرقاً حقيقياً، العقل البشري يستجيب بشكل إيجابي لأي محفز طبيعي، مهما كان بسيطاً.
لكن في المقابل، حياتنا اليومية غالباً ما تسرق منا هذه اللحظات، بين العمل، والمواعيد، والشاشات، والضغوط، نهمل تماماً الخروج، ونكتفي بالهواء المعلّب خلف النوافذ. وربما حان الوقت لأن نُعيد النظر في هذا التوازن. فكما نُخصص وقتاً للرياضة أو المهام الضرورية، علينا أن نُخصص وقتاً للهدوء الأخضر، الذي لا يكلّف شيئاً، لكنه يُعيد الكثير من الطاقة الإيجابية التي نحن بحاجة إليها.
إن عودتنا للطبيعة ليست عودة إلى الوراء، بل خطوة ذكية إلى الأمام. ففي عالم يغرقنا بالضجيج، تصبح الطبيعة ملاذاً صامتاً يعيدنا إلى أنفسنا. وربما، في لحظة صمت بين الأشجار، أو نسمة هواء عابرة من نافذة مفتوحة، نكتشف أننا لا نفتقد شيئاً خارجياً بقدر ما نفتقد اتصالنا بجذرنا الأول.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







