المستمع الذكي

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

في مواقف كثيرة، تجد بعض الناس يلتزمون الصمت في التجمعات، لا يندفعون لعرض آرائهم، ولا يحرصون على أن يكونوا مركز الحوار. قد يُنظر إليهم على أنهم خجولون، أو بلا رأي، أو حتى غير اجتماعيين. لكنّ الحقيقة أن الكثير من هؤلاء يملكون مهارة نادرة وقيّمة في هذا العصر، وقد يسميه البعض «فنّاً»، لأنه يتطلب مهارات اجتماعية وذكاء عاطفياً، وهنا نحن نتناول «فن الاستماع».
الاستماع ليس مجرد غياب للكلام، بل هو فعل عميق يتطلب وعياً وحضوراً وتفاعلاً. الشخص الذي يُتقن الاستماع غالباً ما يُظهر احتراماً للطرف الآخر، ويُعطي للموقف فرصة كي يكشف ما فيه دون استعجال أو مقاطعة. هذا السلوك قد لا يلفت الانتباه بنفس قدر المتحدثين البارزين، لكنه يُحدث أثراً طويل الأمد في العلاقات.
في دراسة نشرت في مجلة هارفارد لإدارة الأعمال، بعنوان «كيف يستمع المستمعون البارعون حقًا» والتي تُعد من أشهر الدراسات في هذا الموضوع، أشار الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يعتبرون مستمعين جيدين لا يكتفون بالصمت والانتباه، بل يشاركون بأسئلة تعزز الفهم، ويظهرون تعاطفاً يشعر الآخر بأنه مسموع فعلاً، وليس فقط «ينتظر منه أن ينتهي». الدراسة أظهرت أيضا أن الاستماع الجيد يرتبط بقدرات قيادية عالية، ويسهم في بناء الثقة داخل الفرق والمؤسسات.
لكن لماذا يختار البعض الاستماع بدل الحديث؟، أحياناً يكون ذلك جزءاً من طبيعة هؤلاء الأشخاص فتكون هذه مهارة فطرية يتمتعون بها، وأحياناً تكون نتيجة تجارب جعلتهم يدركون أن الكلام ليس دائماً الوسيلة الأفضل للتأثير. فالتاريخ حافل بشخصيات مهمة لم تكن الأكثر حديثاً، بل الأكثر إنصاتاً.. كان الاستماع أداتهم لفهم من حولهم بعمق، ولمعالجة الأفكار قبل أن تطلق للناس.
كما أن الاستماع يمنحنا وقتاً لمعالجة المعلومة، وتقدير مشاعر الطرف الآخر، والتفكير بتأنٍ قبل الرد، وهو نوع من التواضع العقلي، لأننا نعترف بداخلنا ولأنفسنا أن لدى الآخرين ما يستحق أن يقال، وأننا لا نعرف كل شيء.
لكن هذا لا يعني أن المتحدثين دائماً أقل وعياً أو أكثر سطحية. الفكرة ليست في التفضيل بين الحديث أو الاستماع، بل في موازنة الاثنين، واختيار اللحظة المناسبة لكل منهما. فالمشكلة لا تكون في الحديث أو الصمت، بل في الغياب عن اللحظة.
من المهم أن نعيد تقييم نظرتنا للأشخاص الهادئين، أو من يفضلون الإصغاء أكثر من الكلام. فهؤلاء ليسوا أقل حضوراً، بل ربما أكثر وعياً. وقد يحملون في داخلهم أفكاراً عميقة تنتظر فقط من يحسن السؤال. في زمن يتسابق فيه الناس للحديث، يصبح الاستماع فعلاً عملة نادرة.. ليس لأنه صامت، بل لأنه يمهد لحوار أعمق، وفهم أصدق، وإنسانية أكثر حضوراً في علاقاتنا.

عن الكاتب

مؤلفة وكاتبة وناشرة، قدمت لمكتبة الطفل عدة قصص، وفي أدب الكبار أنجزت عدة روايات وقصص قصيرة، ونصوص نثرية. حازت على عدة جوائز أدبية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"