هل استثار خيالك العنوان؟ دعِ العنوان يكتب ما يشاءُ، وطبْ فهماً إذا اتسع الفضاءُ. هي زلّة قدمٍ في الخيال العلمي، وإلّا فالحديث أبعد ما يكون من أدب المذكرات والرحلات والاعترافات. يقيناً، لا شأن لنا لا باعترافات الفيلسوف السويسري الفرنسي جان جاك روسو، ولا برحلة ابن بطوطة، ولا حتى بباكورة كتابات القلم الساخرة في سنّ العشرين في تونس: «مذكرات بقّة».
الخطوة الخيالية الأولى على درب هذه الفكرة هي: ماذا لو عكفت كل دولة على كتابة مذكراتها في الخمسين سنةً الماضية، أو القرن الذي انقضى؟ قل للزمن ارجع يا زمن، وهاتِ لي بلداً لم يعرف في التنمية تعثراً ولا تعذراً ولا تعسراً، دولةً كانت ثروتها الأولى إنسانُها الذي كان وظل إنسان عينها، وطناً لم يهترئ عنفوانه بسوس الفساد الإداري وأرَضَة الفساد المالي، تراباً سيادياً ترابُه يعشق وحدة السيادة، وسيادته تعشق وحدة التراب، موطناً مولده كان حلماً لذلك ظل حلمه في كل يوم مولداً جديداً متجدداً، زماناً ومكاناً، لو غبت عنه عاماً فلن تعرف ظرف مكانك فيه ولا ظرف الزمان، أرضاً الحداثة فيها واقع مشهود، وما بعد الحداثة عين له وهم.
لكن النكد غير المقصود في هذه الومضة الخاطرة، هو ما سيتبادر إلى أذهان المتشبثين بالموضوعية، سيعجلون بالقول: لا تظننّ أن المشتغلين بالتاريخ في البلدان التي شادت صروح الأوهام التنموية، يجرؤون على كتابة مذكرات بلدانهم بشفافية. هل كتابة التاريخ أمر يسير؟ كتابة التاريخ هي في حد ذاتها تاريخ كتابه مثلما قالت كوكب الشرق: «إن الصبر وحده يحتاج إلى صبر».
كتابة التاريخ تتطلب لذاتها كتابة تاريخ. أنت رائع المزاح والمزاج، إذا توهمت أن الإمبراطورية نفسها تقدر على الاعتراف بسالف أيامها في العقود الخمسة الأخيرة، أو منذ مطلع القرن الماضي، أمّا عن البداية، فإنها تذكّرك بابن كثير في«البداية والنهاية». ماذا لو حبّرت الدول مذكراتها بكل صدق، لا تبتغي غير وجه الحقيقة؟ سترى الإنسانية جنساً أدبياً مسيطراً، هو الاعترافات المأساوية التراجيدية الغالبة، أما الندرة النادرة ذات المنارات المشرقة الباهرة فإنها ستكون ملاحم من صنع الواقع برجال واقعيين.
لزوم ما يلزم: النتيجة الإيقاظية: كتابة مذكرات البلدان بشفافية، في التنميات المتعثرة، تجربة فريدة لكل من أراد إدخال السخرية في التاريخ، والتاريخ في السخرية.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا
