مرآة أم متاهة؟

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. باسمة يونس

يحمل السؤال عن مدى تحوّل المسرح إلى فن للنخبة بين طياته تأكيداً على أن هذا الفن الذي وُلد في الساحات كان صوت الناس ومراياهم وانعكاس همومهم اليومية، ولا يأتي الآن من فراغ، بل ينبع من رصد تحوّل ملحوظ في طبيعة العروض المسرحية المعاصرة، حيث يميل الكثير منها إلى التجريد والتنظير أو الاشتغال المفرط على الرمزية على حساب التواصل مع المتلقي العادي.
وفي الواقع، لا يغيب عن بالنا أن المسرح نشأ في البداية من قلب الجماعة، وكانت بداياته طقوساً واحتفالات شعبية، قبل أن يتحوّل إلى مساحة للنقاش والجدل والتسلية والنقد الاجتماعي بداية من «أريستوفان» الذي يعتبر من رواد المسرح الساخر في اليونان القديمة إلى «شكسبير» الذي وضع الإقطاعيين والفلاحين في صراع واحد على الخشبة، ومن «موليير» الذي عرّى نفاق الطبقات البرجوازية، إلى «سعد الله ونوس» في العالم العربي.
كان المسرح حاضراً بقوة في وجدان الجماعة، وناطقاً باسمها وهمومها، لكنه اليوم بدأ ينسحب تدريجياً من الشارع نحو النخبة والذهن التجريدي، فلم تعد معظم العروض تنبع من لحظة معيشة أو موقف يومي يخصّ الإنسان العادي، بل باتت تسكنها أفكار فلسفية معقدة، أو تحوّلات جمالية عصية على الفهم الشعبي. ولم يعد من النادر أن يخرج المتفرج من المسرح وهو يتساءل: «ما الذي شاهدناه اليوم؟»، و«عمَّ يتحدث العرض؟»، بدلاً من أن يخرج متأثراً مما رآه ليفتح مع الآخرين حوارات ومناقشات تتعلق بهمومه الاجتماعية والإنسانية.
إن ما لاشك فيه أن اشتغال المسرح على الفكر والرمز ليس مشكلة في ذاته، فالفن، في جوهره، لا ينفصل عن الفكرة، لكن الأزمة تكمن حين تنقطع الفكرة عن الواقع، وتتحوّل إلى استعراض ذهني يُقصي الجمهور بدلاً من تقريبه، ونص يحوّل المسرح إلى منصة تجريبية معزولة عن الحياة ليغيب الإنسان، وتغيب حكايته، فلا يعود المسرح سوى تمرين شكلي في الظلال والفراغ.
وكثيراً ما يبرّر هذا التحوّل بالقول إن الجمهور لم يعد راغباً في حضور المسرح بسبب طغيان التقنيات الحديثة ليصبح العمل المسرحي محلاً لقلة من المهتمين، لكن أليس من الأجدى أن نسأل ونبحث عن السبب الحقيقي الذي يبعد الجمهور، وما إن كانت المشكلة في ذائقة الناس أم في العروض التي لم تعد تشبههم أو القصص والمواقف المستعارة من بيئات أخرى ومشكلات لا تنتمي إلى واقعهم الحقيقي؟
ألا يتحدث المسرح بلغة لا يفهمها أحد، ويتناول موضوعات لا تمسّ أحداً، فكيف نطالبه بالبقاء في قلوب الناس إذاً؟
إنّ هذا لا يعني تسطيح المسرح أو الاكتفاء بالمسارح التجارية والتهريج لإرضاء الجمهور، بل ضرورة إعادة النظر في دوره وما الذي يجعل المسرح فناً ذا معنى وشكل، يمزج العمق بالوضوح، والرؤية بالمتعة، والرمز بالحكاية.
إن المسرح الجيد لا يخاطب الجمهور بفوقية، بل يأخذه معه في رحلة فهم الذات والعالم، وهناك تجارب مضيئة لمسرح قادر على التوازن، من خلال مزج الطابع التراثي بالحسّ النقدي، والتجارب التي ترتبط بقضايا الشباب والتغير الاجتماعي والتراث المحلي يمكن من خلالها إثبات إمكانية إبقاء المسرح قريباً من الناس، من دون أن يفقد قيمته الفكرية.
وفي النهاية، لا يُولد المسرح للنخبة، لأنه لا يفكّر بدلاً عن الجمهور، بل يشعل فيه التفكير، ويدفعه لطرح الأسئلة. وإذا ما أردنا لهذا الفن أن يستعيد مكانته، فعلينا أن نعيد له إنسانيته، وأن نمنحه فرصة أن يكون مجدداً مسرح الإنسان العادي، الذي يبحث في الفن عن مرآة، لا عن متاهة.

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"